لمعة.. الدمعة التي لا تجف..

شقيقتي الكبرى.. أمي الثانية.. في بضع السنوات الأولى من عمري، وعيتها طالبة في جامعة دمشق، كلية الآداب، قسم اللغة الإنكليزية وآدابها. كانت متفوقة في الدراسة، الأولى على سورية في امتحان الشهادة الثانوية، لذلك درست على حساب الدولة، تخرجت في العام 1961 حاملة الإجازة باللغة الإنكليزية وآدابها، مع دبلوم التربية، في نفس الدورة التي تخرجت منها الأديبة المعروفة غادة السمان، وأوفدها المركز الثقافي البريطاني مع عدد قليل من زملائها المتفوقين إلى لندن.

التبشير بنجاحها.. قصة أغرب من الخيال

من أغرب القصص التي مرت معي في حياتي، لكنني شاهد عيان عليها. فقد كان والدي رئيس مخفر منطقة تدعى “الزربة” بالقرب من حلب، أيام كان رئيس المخفر هو الحكومة في العام 1956. كانت أسطح بيوت القرية قباباً، والوقت وقت الهجير. أرسل أبي بطارية الراديو إلى حلب ليشحنها، لذلك لم يكن راديو البيت يعمل، وعلمنا أن نتائج البكالوريا ستذاع اليوم من إذاعة دمشق، هكذا كانت النتائج تُعلَن في ذلك الزمن، لذلك ذهبت أختي لبيت أحد الدرك لتستمع إلى النتيجة، ونحن، أنا وأمي، رحمها الله، ننتظر عودتها. كنت في السابعة من العمر، أمي في المطبخ تحضر طعام الغداء على “البابور”، وأنا معها أساعدها أو ألهو بشيء ما، لم أعد أذكر. كانت للمطبخ نافذة مفتوحة يبدو منها المخفر، والكلب “حمّور” باسط ذراعيه تحت النافذة. فجأة، يطل رجل بعد أن هفهف ثوبه الأصفر في الهواء الحار وهتف: لمعة ناجحة.. مدت أمي رأسها وما استطاعت من جسمها من النافدة لتستطلع الأمر، بينما خرجت أنا أدور حول البيت بحثاً عن الرجل، لكنني لم ألمح أحداً. كان بيتنا منفرداً عن باقي بيوت القرية، وقريباً من المخفر. بعد قليل عادت أختي والفرح يملأ قلبها وعينيها الخضراوين، تبشرنا بنجاحها، ففلنا لها: نعرف. وروينا ما حدث.

سألنا أهل القرية عما رأيناه اليوم، فلم يستغرب أحد الأمر، بل قالوا لنا: هذا فلان، من أولياء الله، ومقامه خلف المخفر.

الحقيقة أنني لا أزال أحار في تفسير هذه الحادثة، وأنا العلماني الذي لا يستطيع تصديق الرواية، لو رواها لي أحد، على الرغم من أنني أقدس العقل البشري، وعندما قرأت “غوستاف يونغ”، كان إعجابي شديداً باحترامه للعقل البشري. لكنني أؤكد، لوجه الحقيقة فقط، أن هذا ما حدث، وكنت عليه ليس شاهد عيان وحسب، وإنما شاهد بكل الحواس.

كانت لمعة، طيب الله ثراها، حنوناً، لكنها كانت تؤثر أخي الأصغر مني مباشرة “وليد” على باقي الإخوة والأخوات، وكانت تدعوه “وليدوس”. لكنني لم أشعر بالغيرة من ذلك طوال حياتي، وما سطوري هذه إلا دليلاً على ذلك، ومع أنني أكبر من وليد بأقل من سنتين ونصف السنة، كان شعوري تحوه شعور صداقة، وفي بعض الأحيان أبوياً، على الرغم من طبعه الناكر المتنكر حتى هذه اللحظة.

سأقفز ست سنوات إلى الأمام لأن أحداث تلك المدة لم تكن غير عادية، فقد كنت أعِدُّ نفسي لأكون شيئاً ما في المجتمع، وكنت خلالها تلميذا في المتوسطة، ثم الثانوية، وكانت لمعة منهمكة في رفع مستوى أسرتنا من الناحيتين الاقتصادية والعلمية.

ساهمت لمعة في تعليمي في الجامعة قدر ما استطاعت، وكانت مساهمتها نوعاً من الرفاهية بالنسبة لي، وكانت تساعدني في الدروس التي تتعلق باللغة الإنكليزية، ولتلك حكايات ذكرتها عند الحديث عن علاقتي باللغة الإنكليزية.

تزوجت أختي لمعة من شخص لديه زوجة وأولاد، يقل عنها علماً، لكنه ركب الموجة وشغل مناصب في المسؤولية. استأثر بها، ومارس كل وسائل السيطرة عليها، أخذ منها وكالة براتبها.. لم تكن تعرف مقدار راتبها، ثم دبّر لنفسه ولها إعارة إلى الكويت أربع سنوات، وعاد ليسكن بيتها الذي تملكه، وكان كل ما جنته خلال عمرها القصير. ولأنني كنت قد اتخذت لنفسي منهجاً في الحياة، ولم أطلب منه مساعدة ما أو واسطة في حياتي، كان ينظر إلي وكأنني متمرد على البلاط.

في أوائل الثمانينات، وكنت قد احترفت الكتابة العلمية، وترجمت بعض الكتب ونشرتها، كلفتني المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع في بيروت، ممثلة بالدكتور إبراهيم قبيسي، (أرسل له تحية)، بترجمة موسوعة الطيور، فقمت بالعمل خلال زمن قياسي، وجئت بالمخطوط لأعرضه على أختي، أستاذتي الأولى والأخيرة في اللغة الإنكليزية. كان المخطوط كبيراً، في حدود الخمسمئة صفحة، قلت لأختي، يمكنك أن تقرئي ترجمة كل صفحة بنفس الترتيب الذي جاء في الكتاب، أي ما تجدينه في الصفحة المئة والعشرين في الكتاب، تجدين ترجمته في الصفحة مئة وعشرين من المخطوط.

أخذت لمعة تقرأ في الكتاب، ثم تتحول إلى المخطوط، وملامح وجهها الجميل تحمل من الجدية ما تعودنا عليه طوال حياتنا معها.

ثم قالت: “هل هذه ترجمتك فعلاً؟

أجبت: ما تعودت في حياتي أن أدعي لنفسي ما ليس لي.

وبالطبع كانت تصدقني وتثق بكلامي.

قالت: صياغتك باللغة العربية أشبه بالتأليف، لا أرى أي عيب في الترجمة، إنك تعبر عن الفكرة بدقة علمية، ولغة عربية سليمة، وأسلوب أشبه بالتأليف.

كانت شهادتها وساماً لا زلت أحمله على صدري وفي قلبي. لكن الزوج لم يتحمل الموقف، صرخ بي:

الآن أصبحت مترجماً، متى ستستقر على عمل؟ أنت.. أبوك عجز عنك..

قلت له ببرود: ومن طلب منك خدمة أو مساعدة في يوم من الأيام؟ عليك بالسكوت عندما لا تفقه الحديث.

جُنّ جنونه، فنهضت قائلاً: أعلم يا أختي أن البيت بيتك، ولأنني أحبك كثيراً سأغادر هذا البيت ولن أدخله ثانية في حياتي، مادام هذا الرجل فيه.

وحارت المسكينة بيني وبينه، لكنها لا تجرؤ على إسكاته، ولا تقوى على معارضته. وفي نفس الوقت، لم أكن أرغب في تأزيم حياتها معه، يكفيها ما هي فيه، وفي اليوم التالي حدثتني هاتفياً تعتذر عما حدث البارحة، وتطلب مني أن أتصالح معه، وأن أكون البادئ لأنني الأصغر سناً.

قلت لها: تعرفينني جيداً.. لن أقبل بأقل من قدومه إلى بيت أهلي واعتذاره أمام الجميع.

قالت: وأنت تعرفه أيضاً.. لكنه ندم ندماً شديداً على ما فعل.

كان ذلك في حمص، وكنت أزور الأهل ليومين، غادرت بعدها إلى دمشق حيث أقيم، ولم أرها بعد ذلك، وكنت أتحدث إليها أحياناً على الهاتف. ثم سافرت إلى بيروت مقيماً، ثم إلى نيقوسيا مقيماً أيضاً، حسب متطلبات العمل.

آخر مرة تحدثت معها من نيقوسيا يوم 29/11/1983، حين دعوتها لحفلة زواجي في نيقوسيا.

سألتني: ألا تزال العروس فاتن عمران؟ (وكانت فاتن الصديقة والرفيقة التي لا تزال معي)

قلت لها: نعم. فتمنت لي زواجاً موفقاً، واعتذرت عن الحضور، وكنت أعلم أنه لن يسمح لها.

الخبر الفاجعة

كنا قد أسسنا جريدة “اللقاء” اليومية، أستاذنا في في الإخراج الصحفي عون ممتاز، الذي لم أقابله منذ زمن طويل ولا أعرف أي شيء عن أخباره، والصديق العزيز مأمون ميبر، الذي أصبح قبرصياً، وأعتقد أنه مازال مقيماً هناك، وكنت قد قابلته في دمشق منذ حوالى ثماني سنوات.

ذات يوم، وكنت قد تأخرت في المجيء إلى مكتب الجريدة لما بعد الظهر، قابلتني أمل زوجة عون ممتاز بوجه حزين وكأنها تحمل خبراً سيئاً، قالت: أخوك وليد اتصل أكثر من عشرين مرة من السعودية، اتصل به. لم تكد تكمل حديثها حتى كان هناك من يناديني: هاتف لك. كان على الطرف الآخر أخي وليد يسألني: هل تعلم شيئاً عن أخبار لمعة؟ قلت: تحدثت إليها منذ شهرين على ما أظن، هل من أخبار؟ جاء الخبر كالصاعقة: لمعة ماتت منذ أسبوعين.

تماسكت، وكأنني لم أسمع شيئاً: طيب! الله يرحمها.. فالإنسان كما يولد يموت. وكأن شيئاً لم يكن. لكنني رغبت بالعودة إلى بيتي. أمسكني عون وأمل، وقالا: مستحيل.. ستذهب معنا إلى بيتنا، فاتن في دمشق، ماذا ستفعل في البيت؟ قلت: أريد أن أذهب. لكنهما أمسكا بي وأجبراني على الذهاب معهما إلى بيتهما، وكان معنا سفير إحدى الدول العربية في نيقوسيا.

راحت أمل تعد الغداء، وراح عون يتحدث إلي، وكذلك صالح، السفير، وبقيت متماسكاً طوال الوقت. قدمت أمل لنا الويسكي، وأنا لست مدمناً على الكحول، لكنني كنت راغباً في الشراب، شربت حينها كما لم أشرب خلال حياتي، بدأ الخبر يأخذ طريقه إلى وعيي، انتهينا من الغداء، فنهضت لأودع الأصدقاء، قالوا لي: لن ندعك تذهب. قلت: أريد أن أنام. قالت أمل: يمكنك أن تنام هنا. قلت: بل في بيتي. قال عون سأوصلك بسيارتي. قلت: بل سأذهب وحدي في سيارتي. قال لا يمكنك أن تقود السيارة، لقد شربت كثيراً. قلت: البيت قريب وليس لدي مشكلة في قيادة السيارة. وفعلاً كان بيتي وبيت عون في نفس الشارع، شارع كنيدي. حين أدرك عون إصراري قال: إذن سأكون وراءك في سيارتي. وبالفعل، قدت سيارتي، وتبعني بسيارته حتى وضعتها في كاراج البناية، وودعني وعاد.

دخلت البيت، أصبحت وحدي، بدأت لحظة الحقيقة: لمعة، الأخت الجميلة الحنون، الأم الثانية، ذات السنوات اسبع والأربعين ماتت، وتهالكت على السرير أبكي كما لم أبك في حياتي، وأنتحب وأنوح كامرأة فقدت ابنها الوحيد، اشتدت علي العاطفة، وأنا بطبعي عاطفي، أصرخ: لمعة ماتت، ومنذ أسبوعين أيضاً! لماذا لم يخبرني أحد؟؟ ورحت أغط في نوم عميق لساعات ثلاث، استيقظت بعدها مكسَّراً، وكأنني خارج للتو من مباراة مصارعة، شعرت بأنني كبرت أربعين سنة، واستطعت الوصول إلى الهاتف. أمسكت بالسماعة من السابعة مساءً حتى الحادية عشرة ليلاً، حتى تمكنت من التقاط الخط، سألت أمي: ما أخبار لمعة؟ قالت: هي بخير، وغاب صوتها، استلمت السماعة أختي ظبية “الطبيبة”، أعدت السؤال، أجابت بغصة: هي بخير. صرخت: لماذا لم تخبروني أنها ماتت؟ بعد دقائق عادت أمي لتقول لي بأنهم كانوا خائفين على من الحزن الشديد، لذلك أخفوا الخبر عني. وكان عتابي مراً أخرجني عن طوري. أقفلت الخط، واتصلت بزوجتي في دمشق، وراحت تسألني عن أحوالي وأنا كاره نفسي، قلت: لمعة ماتت يا فاتن. كانت فاتن تعد نفسها لتتعرف على لمعة، كونها كانت تدرس في نفس الكلية، اللغة الإنكليزية وآدابها. فانفجرت بالبكاء، أخذت أمها السماعة منها لتعرف ما حدث، فأخبرتها بالخبر الفاجعة، فانفجرت الأخرى بالبكاء، وانقطع الخط. بعد قليل اتصلت فاتن بي، بعد أن لملمت نفسها، وراحت وأهلها فرداً فرداً يقومون بواجب العزاء.

عندما عدت إلى سورية، بعد عدة أشهر، ذهبت إلى حمص أسأل عن مكان قبرها، أريد أن أصدق أنها ماتت، دلني الأهل على القبر، وذهبت إلى المقبرة وحدي، وأنا لست ممن يؤمنون بزيارة الموتي، لكنني رغبت أن أرى أين أصبح الجسد الصغير الذي كنت أعتقد أنه لا يقوى على الموت. وقفت أمام الشاهدة وقرأت “هذا قبر المربية الفاضلة لمعة نوايا” توفيت في 24/1/1984. وقفت أتأمل قبرها الصغير الرخامي، أقرأ الفاتحة، وسوراً من القرآن الكريم، وكنت أحفظ الكثير منها، كنت أتخيل بأنها تسمعني، وبأنها تشعر بوفائي لها، حدثتها وأخبرتها عن نفسي. لم أطلب منها أن تحدثني عن نفسها لأنني أدرك بأنها لن تتمكن من ذلك، لكنني لم أصدق حتى الآن أنها ماتت.

زارتني لمعة منذ أيام قليلة في منامي، رأيتها ولم أكن قد أكملت ربع الساعة من غفوتي، نهضت سعيداً، لأنها كانت سعيدة جداً، وجهها مشرق نضر كما لم يكن عندما كانت لا تزال على قيد الحياة، شعرها مصفف عند كوافير فنان، حضنتها وأنا أقول لها: اشتقت إليك كثيراً يا أختي، وأمسكت بيدها اليسرى ورحت أقبّلها، لم تقل لي شيئاً، صحوت فوجدت ابني لا يزال ساهراً. سألني فرويت له عن عمته التي لا يعرفها، لم يعلق إلا بالقول: الله يرحمها.

رحم الله لمعة.. فقد عاشت مضحية طوال حياتها من أجل الغير، ودفعت ثمناً باهظاً لاختيارها غير الموفق، لكنها خرَّجت أجيالاً تذكرها بالخير والمحبة، وتركت حسرة في قلوب أحبائها، ودمعة لا تجف.

Comments are disabled