الدكتور عبد الرحيم الشامي.. العالم المنسي

عالم لم ينصفه المجتمع لأنه لا يعرف شيئاً عنه، لكن فضله على الوطن والأمة يتجدد كل عام، وننعم به، مع كل حصاد لمحصول اقتصادي استراتيجي هو القطن.

كان المهندس الزراعي عبد الرحيم الشامي مديراً لمكتب القطن في حلب، ومدرساً متبرعاً في كلية الزراعة، لا يتقاضى قرشاً واحداً عما يقدمه لطلابه من علم، وكان المدرج يغص بالطلاب خلال محاضراته، لذلك لم يكن يعبأ بالتفقد، ومن حضر ومن لم يحضر، لكنني أجزم بأن أحداً لم يكن يتغيب عن محاضراته.

لم يحفظ الأستاذ الشامي اسم أي من طلابه على مدى السنوات التي قام خلالها بالتدريس في الجامعة، ولو كان اليوم حياً لمرَّ عليه اسمي وكأنه يقرؤه للمرة الأولى، مع أنني كنت معروفاً على مستوى جامعة حلب، بسبب تعدد أنشطتي الأدبية والسياسية.

قبل سنوات من حرب الأيام الستة (حزيران/ يونيو 1967) كما دعاها البعض، فكر عبد الرحيم الشامي ببلده من خلال مسؤوليته الوطنية، وصلاحياته في العمل، وهو يراقب الأوضاع السياسية ويدرك الأخطار المحدقة بالبلد واقتصاده، فالقطن محصول استراتيجي بالنسبة لسورية، وكنا ولا نزال نعتمد على الولايات المتحدة الأميركية في الحصول على بذوره، من السلالات العالمية، فإذا وقعت حرب بيننا وبين الكيان اليهودي، وهذا حتمي، ووقفت الولايات المتحدة مع هذا الكيان، كما هو متوقع، من أين سنحصل على بذور القطن من تلك السلالات؟؟

الأسئلة الكبيرة لا تخطر إلا للكبار، ولا أحد يمتلك الإجابة عنها إلا الكبار. كانت الإجابة المختصرة القاطعة: ننتج بذورنا محلياً.

ربما لا يدرك الكثير من قرائي ما معنى هذا الكلام، وربما يتوجب علي أن أشرح الأمر باختصار شديد: إن جميع ما نستهلكه من خضار وفواكه ومحاصيل أخرى، بالنوعية التي نعرفها، لا وجود لها في الطبيعة. فأجدادها من النباتات البرية لا تشبهها على الإطلاق، ومن العسير حتى على المهندس أن يتوقع الشكل البري لما يستهلكه اليوم من المنتجات الزراعية. وما فعله الإنسان، من خلال ما تراكم لديه من العلم والتجربة والملاحظة الشديدة، وتوجيه الصيغ الوراثية نحو ما يريد، أكبر بكثير مما منحته الطبيعة. والمشكلة هنا، أن الاعتماد على البذور غير المؤصلة، يمكن أن يعيد بعضاً من الصفات الوراثية غير المرغوبة، وبالتالي يكون المحصول غير اقتصادي، نوعاً وكمّاً.

لذلك كان التحدي أمام المهندس عبد الرحيم الشامي أكبر بكثير مما قد نتصور، لكنه كان على قدر المسؤولية، وأكبر من التحدي، لذلك تصدى للأمر، وقاد مجموعة من البحوث، في محافظتي حلب وحماة، لنصل إلى العام 1967، ونحن ننتج ما نسبته 90% من بذار القطن الذي نحتاج إليه محلياً. كانت أسماء السلالات أجنبية (كوكر 100 وولت، كارولينا كوين، وغيرهما)، وأصبحت محلية (حلب 1، وحماة 94، وغيرهما). تضاهي أصناف القطن العالمية، وربما تقل عنها قليلاً في ذلك الوقت، لكن إنتاجها أصبح في أيدينا بشكل كامل.

لا أريد أن أتوسع كثيراً في الأمر، لكن حروب القطن على المستوى العالمي لا تقل عن الحروب العسكرية، وما يُفرض على مزارعي القطن الأفارقة مثلاً من أعباء، من قِبل الولايات المتحدة تحديداً، يجعل مُزارع القطن واحداً من أفقر مُزارعي العالم، بسبب الدعم الذي يتلقاه المُزارع الأميركي، والذي يُمنع عن المُزارع الأفريقي، وما تفرضه السوق العالمية على هؤلاء المزارعين، والحديث يطول.

أجَّل المهندس عبد الرحيم الشامي مناقشة أطروحة الدكتوراه سنوات عدة، لأنه كان مشغولاً جداً في الشأن العام، على حساب مصلحته الشخصية، حتى أتيحت الفرصة له، فذهب إلى فرنسا، وأمام أقدر الأساتذة هناك، استغرق دفاعه عن أطروحة الدكتوراه سبع دقائق فقط، نالها بدرجة الشرف، فتحدثت عنه وعن إنجازاته العلمية إذاعات العالم، إلا إذاعاتنا بالطبع!!

الدكتور عبد الرحيم الشامي واحد من قلائل جداً على وجه الكرة الأرضية أغبطهم، لا بل أغار منهم، وكانوا منارات لي، ومُثلاً عليا، أفتخر بتلمذتي عليهم، إنهم أساتذتي بكل فخر.

ذهبت إليه ذات يوم، وكنت قد قرأت أن الرئيس الفرنسي “بومبيدو” قال لمزارعي فرنسا: من العيب على بلد زراعي كفرنسا أن يعتمد في غذائه على الغير، وكان يقصد اعتمادهم على الولايات المتحدة في الحصول على الصويا، فقام المزارعون الفرنسيون بزراعة هذا المحصول في فرنسا، على الرغم من أن كلفة زراعته كانت أعلى من كلفة استيراده. قلت للدكتور عبد الرحيم: أريد أن أبدأ زراعة الصويا، فتحدث لي عن تجاربه على هذا المحصول وكيف تمكن من الحصول عليه مرتين (عروتين) في موسم واحد، وحيّاني على طريقة تفكيري. لكن ظروفاً أكبر مني في ذلك الوقت حالت دون ذلك، وما كان أكثرها!!

رحم الله العالم الدكتور المهندس عبد الرحيم الشامي، وطيب ثراه، إنه يستحق أكثر من تمثال في إحدى ساحات المدينة.

Comments are disabled