وداعاً حسين حلاق.. يا فارس الصحب

شخصية فذة، تعرفت به عام 1981، وكان مديراً لدار الكلمة للنشر في بيروت. لم تمض فترة طويلة حتى كنا صديقين يحمل كل منا للآخر كل الحب والاحترام، وكان إعجابه بي وإعجابي به يزداد مع مرور الوقت، تعاملنا بما كان ينشر من الكتب، وكانت في تلك الأثناء مطلوبة جداًُ، مئة عام من العزلة، وخريف البطريرك وغيرهما لماركيز، ومغامرة العقل الأولى، وملحمة جلجامش وغيرهما لفراس السواح، ومجموعة من الكتب المترجمة المنوعة في مختلف الشؤون السياسية والقومية والأدبية والفكرية. بقي ذلك حتى الاجتياح اليهودي لبيروت.

بعد الاجتياح، في أواخر 1982 طلب مني (أبو علي) أن أحضر إلى بيروت، وكنت مقيماً في نيقوسيا، فحضرت، وكان قد هيأ لي مكتباً لديه، وشقة فخمة (كانت لوزير خليجي) للإقامة، وبدأ المشوار معه. تعرفت من خلاله على الكثير من الشخصيات المعروفة، وأنجزت الكثير من الأعمال لدور نشر أخرى، واستمرت إقامتي حوالى ستة أشهر، قرر أبو علي بعدها الانتقال إلى نيقوسيا، بعد أن تعقدت الأمور في بيروت، فسبقته عائداً إلى هناك.

خلال هذه الفترة أبدى أبو على فروسية نادرة في الضيافة، فقد كان ممنوعاً علي حتى أن ألبي دعوة أحد من الأصدقاء الآخرين على الغداء أو العشاء، وكان يطلب مني أن أدعو مضيفي إلى مائدته. كان أبو على يمضي أغلب ساعات يومه في المكتب، يقرأ المخطوطات، ويتابع أعمال النشر، لديه طباخه المصري (السيد)، ولا يستطيع أن يتناول الطعام إذا لم يكن على مائدته بضعة من أصدقائه على الأقل، كان مضيافاً إلى حد يصعب تصوره.

تتبدى فروسية الأصدقاء في أمرين اثنين: المال والنساء. وكان لي معه تجارب فيهما دون قصد مني، علمت في ما بعد كم كان صديقاً صدوقاً، وكم كانت الصداقة تعني له أمام المغريات الأخرى. وإذا كنت أسجل كلمة حق أمام من يشاء أن يعرف من العالم، وهو في عالم الخلود الآن، أقول: لم أكن قادراً على مجاراته في إخلاصه لصداقاته، وبكل الصفات الخيرة التي أحملها في العطاء، وهذا مشهود لي به، لم أكن قادراً على إدراك قدرته على العطاء.

كانت لـ”أبو على” فلسفته (المعرِّية) في الحياة، لم يكن يرغب في أن يكون له ولد، كان يحب أولاد أخيه حسن، وقد تخلى لحسن عن ميراثه كاملاً ليس طوعاً فقط، بل بإلحاح منه أيضاً.

كان أبو على متأنياً في اتخاذ قراراته، وفي تنفيذها “غير مستعجل”، لذلك قام بعدة سفرات إلى بلدان أخرى قبل أن يحط رحاله في نيقوسيا، لكننا كنا على تواصل. وذات يوم أخبرني أنه حضر وهو في فندق هيلتون، ذهبت إليه، ودعوته للإقامة في بيتي، وكنت عازباً، ماطل قليلاً ثم وافق، ثم استأجر شقة لنفسه واستقل. وأقمنا هناك عدة أشهر معاً.

سبقتُ أبا علي في زواجي، حيث أقمت الحفلة في مطعم عمر الخيام في نيقوسيا، ولا زلت أحتفظ بشريط الفيديو، الذي يظهر فيه أبو على، مع عدد كبير من الأصدقاء، وممثلي البعثات الدبلوماسية العربية، وأصدقاء قبارصة. وبعد أن غادرت نيقوسيا عائداً إلى دمشق، تزوج أبو علي من حبيبته التاريخية ليلى فانوس في نيقوسيا أيضاً. كان الملفت في زواجه، كما روى لي الأصدقاء، التنوع المذهبي: فقد كان هو من أسرة سورية إسماعيلية كريمة، والعروس ليلى مسيحية فلسطينية، وأحد الشهود من المذهب السني، والآخر من المذهب العلوي. ولأنه أساساً خريج لندن، وليلى تعيش هناك وتعمل في إحدى السفارات العربية، أصبحت إقامته الدائمة في لندن.

صرنا، نحن أصدقاءه، ننتظر قدومه على فترات متباعدة، فلندن ليست بيروت بالنسبة لدمشق، وكان أبو على إذا حضر إلى دمشق، يتمهل في العودة إلى لندن، وكنا نشجعه على ذلك، لأننا كنا نسعد بلقائه. وخلال الجلسات الطويلة، يروي لنا أبو على قصصاً من تاريخ نضاله: شارك في عروس الثورات في العراق في 8 شباط 1963، ثم في ثورة آذار في سورية بعد شهر واحد من نفس العام، ثم ساهم في الانقلاب على ثورة آذار في 18 تموز 1963، ثم هرب إلى بيروت، ومنها إلى القاهرة لاجئاً سياسياً، وبقي هناك إلى ما بعد 1970 حين صدر عفو عنه.

تحدث لنا عن علاقته الشخصية بالرئيس جمال عبد الناصر منذ أن كان طالباً في حماة خلال سنوات وحدة 1958 مع مصر، ثم طالباً نشيطاً في لندن، ثم خلال لجوئه السياسي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في سورية. وكنا نصغي بكل حواسنا وقلوبنا، ونشعر بحجم هذا الرجل الذي يروي، ويكره الأضواء. بالطبع كانت علاقاته بجميع قيادات الفصائل الفلسطينية، وكان له خطه الوطني الواضح.

في آخر زيارة له إلى دمشق، كنا نجتمع غالباً في مقهى الروضة، على مقربة من مكتبي في شارع العابد في تلك الأيام. وكان الهدف من زيارته وداع أبيه الذي توفي بعد أيام من وصوله عن عمر ناهز التسعينات. كنت خلاله أصدر مجلتين علميتين، وكان الوقت ضيقاً جداً، لذلك مضى في إحدى المرات أكثر من أسبوعين لم أقابل أبا على خلالهما.

في يوم 8 كانون الأول 1998 كنت أقدم أوراق زوجتي للحصول على الجنسية السورية (إيرانية الأصل)، ولدي موعد بعد دقائق في وزارة الزراعة، وكانت معي زوجتي وأختها، قررت فجأة الاعتذار عن موعدي في الوزارة، والذهاب إلى مقهى الروضة لأنني شعرت بالشوق لصديقي (أبو علي). تركت زوجتي وأختها واتجهت للمقهى، والأختان مذهولتان من تغير وجهتي من الوزارة إلى المقهى فجأة، فوجدت الـ”شلة” كلها إلا أبا على، سألت أين هو؟ فأجابوا: لم يأت بعد، البارحة تناولنا الغداء معاً. قلت لهم سأتلفن له من مكتبي وسآتي به، وأتعهد بإعادته بسيارتي إذا كان في الأمر نوع من الكسل، ومضيت.

أصر أبو علي علىّ بالقدوم إلى بيت أخيه حيث يقيم، وعاتبني على غيبتي الطويلة، فركبت سيارتي على الفور واتجهت إلى “مساكن برزة”، حيث يسكن أخوه حسن.

حين سألته بعد دخولي البيت عن السبب في عدم حضوره إلى المقهى، أجابني بأنه بعد أن ارتدى ملابس الخروج شعر بألم في كتفه، فعاد وقرر البقاء في البيت، بينما (أم حسين) زوجة أخيه حسن تعتني به. كان مستلقياً على المقعد الطويل. قلت له: هل ترغب بمساج؟ أنا أتقن عمل المساجات. فبرقت عيناه بالموافقة، قلت: أحضروا لي بلسم الآلام، فأحضروا عبوة منه، وقلت مازحاً: اخلع ثيابك، فخلع ثيابه العليا، ورحت أجتهد في المساج.

لفت انتباهي في ظهره، وفوق موقع القلب بقليل أثر لرصاصة. سألته عنها فأجابني بأنه (أكلها) في إحدى المظاهرات، وما كدت أنتهي من المساج حتى شعر براحة كبيرة، وجلس يبحث عن سيجارة. قلت له: انتظر، لدي علبة إضافية من السيجارة التي تحبها. وأخرجت علبة “كليوباترا”، إذ كانت تذكره بفترة لجوئه السياسي في مصر، فكان سعيداً بها.

وكالعادة، أخذنا الحديث في السياسة، في الوقت الذي كان يقلِّب محطات التلفزيون بجهاز التحكم، حتى استقر على مشهد لياسر عرفات يتحدث بالإنكليزية، ومن جملة ما ذكره عن اسحق رابين قوله كان (My partner). حزن أبو علي، كما حزنت، لهذا التعبير يخرج من فم ياسر عرفات، وهو الرمز، ولأبي علي معرفة قوية به انقطعت بعد الانزلاق في “أوسلو”. وكانت لنا آراء وتعليقات حول مصير حركات التحرر الوطنية الفلسطينية.

في الثانية والثلث من بعد ظهر ذلك اليوم نهضت مودعاً، فأصر عليّ بالبقاء لأن الغداء جاهز، وكذلك أم حسين، فاعتذرت بشدة لأن ابني وابنتي سيعودان من المدرسة، وزوجتي ليست في البيت، وليس لدينا ما يأكلان، وعلي أن أحضر بعض الطعام الجاهز، وانصرفت.

جلست بعد أن أطعمت الطفلين لأعمل على جهاز الكمبيوتر، وكانت زوجتي قد عادت للبيت، وقبل السادسة بقليل رن جرس الهاتف. رفعت السماعة، لأستمع إلى أقصر مكالمة وأفجع نبأ:

عمو أبو رامي أنا حسين ابن حسن (أخو أبو علي).

أهلاً حسين.. كيفك؟ كيف دراستك؟

لدي خبر مزعج يا عمو أبو رامي.

خير إن شاء الله؟

عمو أبو علي أعطاك عمره.. هل تستطيع المجيء؟

وقع الخبر كالصاعقة على رأسي، منذ ساعات ثلاث كنا معاً، كيف حدث ذلك؟ وكانت من المرات القليلة التي أخفق خلالها في حبس دموعي. طفلاي يسألاني، وأنا أرتدي ملابسي بسرعة، سألتني زوجتي: من كان على الهاتف؟ قلت لها: أبو على مات يا فاتن.. شهقت: ألم تكن عنده منذ قليل؟ قلت: هذا ما أذهلني. تذكرتْ على الفور كيف ألغيت موعدي في وزارة الزراعة فجأة، ودون سبب واضح، وذهبت لألتقي به.

لا أدري كيف استطعت أن أقود السيارة من قدسيا حيث أسكن إلى مساكن برزة حيث بيت حسن، والغبش يحجب نصف الرؤية عن عيني المتعبتين أصلاً. دخلت البيت، سألت، أجابوني: خلال أربع دقائق، سعل، وخرج الدم من فمه، فحملناه إلى المشفى، لكننا أحسسنا أنه فارق الحياة وهو على درج البناية.

حضرت ليلى من لندن، وعدد من الأصدقاء من هنا وهناك، سرنا بعد ثلاثة أيام في جنازته، من دمشق إلى السلمية، أصبح جسد أبي علي في تابوت، وروحه تسكننا، نحن الأصدقاء المفجوعين به. جاء من لندن ليودع أباه، فودعناه. كانت ليلى تلملم بعض التراب حول القبر، وتتمتم بشيء ما بينها وبين نفسها، قبل أن تعود إلى صقيعين: صقيع لندن، وصقيع الفراق، وكان الآخرون يقرؤون شيئاً آخر، وكنا نحن ننظر بما تبقى من أعيننا.

لقد كنت آخر من ودعه من أصدقائه، وكان الجميع يسألونني عن تلك الزيارة الوداعية، وما جرى من حديث بيني وبينه، وكانت المرة الوحيدة التي أقابل فيها زوجته ليلى، وقد سألتني غير مرة عما جرى من حديث بيني وبينه في تلك الزيارة الوداعية الأخيرة. مات أبو علي عن عمر ناهز الرابعة والستين، وأصبح ذكرى في قلوب أحبائه وعقولهم.

رثاه الأصدقاء والرفاق، وكنت عاجزاً عن رثائه، فقد كانت كلمات أصدقائه التي نشرت في الجرائد بليغة تروي تاريخاً نضالياً لم أشهده. وكان رثائي له شعراً في الأربعين “مرثية الزمن الصعب”، يمكن للقارئ المهتم قراءتها في “الأعمال الشعرية” على هذا الموقع.

رحم الله حسين حلاق، فقد كان فارس الصحب.. في الزمن الصعب.

Comments are disabled