بيروت.. يا بيروت!..

تعود علاقتي ببيروت إلى أيام العز، حين كانت، في أوائل السبعينات، ساحرة الدنيا وشاغلتَها ، كان مجرد الجلوس في الإكسبريس متعة، كنا نشاهد فيه كل من عصى السلطان وهرب من بطشه، من مختلف البلدان والأوطان، وكانت بيروت تحترم الجميع وتحبهم وتحتضنهم وتحنو عليهم.

في بيروت كل ما تريد: الأدب، الفن، الباب المشرع للضيف، البنات الجميلات الأنيقات، العلاقات، المشاكل لمن يبحث عنها، الزعرنة لمن يطلبها، الثياب الأنيقة، الطعام الشهي. كل شيء متوفر. كنا نذهب ونعود أحياناً في نفس اليوم، أجرة الراكب من دمشق خمس ليرات سورية، وبالعكس خمس ليرات لبنانية، وكانت الليرة اللبنانية أغلى من الليرة السورية دائما. كان رسم الخروج من سوريا إلى لبنان على ما أذكر إحدى عشرة ليرة، ورسم خروج السيارة أكثر بقليل، وقيمة تنكة البنزين سبع ليرات سورية ونصف الليرة. لذلك لم تكن كلفة رحلتنا، بسيارتنا الخاصة، تصل إلى المئة ليرة سورية (تصبح بضعاً وسبعين ليرة لبنانية)، إلا إذا تبضعنا من بيروت، وكثيراً ما كنا نفعل.

سارت الأمور هكذا حتى بدأت الحرب الأهلية، ثم اشتدت، وصار إخواننا اللبنانيون يأتون إلينا في 1981، وكنا نعمل معهم. ثم جاء الاجتياح اليهودي الذي وصل بيروت، وهذا ما حرمنا نعمة الذهاب إلى بيروت، حتى أواخر 1982، إذ أقمت شهوراً فيها، لكنني كنت أذهب إلى نيقوسيا، وأعود إلى بيروت، (ثلث ساعة بالطائرة بين بيروت ولارنكا) دون المرور بدمشق، حوالى العامين، بسبب متطلبات العمل، ثم أقمت في نيقوسيا حتى 1984.

حاولت العودة إلى بيروت مجدداً، لكن ذلك لم يتح لي إلا في العام 1991، بعد اتفاق الطائف، حتى في ذلك الحين، لم يكن أصدقاؤنا يسمحون لنا بدخول بيروت الشرقية في أحيان كثيرة، خوفاً من الحواجز الطيارة، وكثيراً ما كنا نعود دون أن ننجز أعمالنا كاملة.

كان المشهد من غاليري سمعان، عبر الشياح والمتحف، ومناطق كثيرة على الطريق مؤثراً جداً، خاصة لمن أحب بيروت، الدمار في كل مكان، البناية التي لم تتهدم كلها تهدم قسم منها، وعلى مدى عشر سنوات كانت هناك بنايات لا تزال تذكِّر بالحرب الأهلية، أقذر الحروب.

في عام 1993، كانت لدينا في سورية مناسبة وطنية، عيد الجلاء على ما أذكر، كنا نجلس في البيت، والتلفزيون يبث الأغنيات الوطنية، وكانت ابنتي (لونا) تبلغ السابعة من العمر، وابني (رامي) أقل من السادسة بقليل، وبالطبع كنت في عيونهما البطل الذي لا يعرف الهزيمة، المتماسك دوماً، القادر على حل أي مشكلة، السوبرمان الذي لا يصعب عليه شيء. فجأة بث التلفزيون نشيد “وطني حبيبي الوطن الأكبر”، وراح المطربون والمطربات يتوالون على الغناء، عبد الحليم حافظ، ثم صباح، ثم فايزة أحمد، ثم شادية، ثم فايدة كامل، وهنا وقعت المشكلة.

طوال بث النشيد كنت أشعر بغصة كادت تخنقني، كتمت مشاعري وتماسكت، بقيت صامتاً أستمع، حتى انطلقت فايدة كامل بصوتها الثوري القوي: “شوفوا بيروت بعد العدوان.. الاستعمار فين والطغيان”، وانفجرت ببكاء مر ما عرفته إلا عندما توفيت أختي الكبرى، منذ تسع سنوات، طفلاي لم يصدقا ما يريان، بابا! هذا الجبل الذي لا تهزه ريح يبكي. كان من العسير علي أن أشرح ما أبكاني، قلت: “شوفوا بيروت الآن”. وظل الأمر عالقاً في ذهنَي الطفلين لسنوات.

بيروت!

أيتها الجميلة في أشد حالات قبحك، الطاهرة في أفدح حالات عهرك، القوية في أصعب حالات ضعفك! أعلن حبي لك: ملحاً وعسلاً، وصلاً وهجراً، حياةً وموتاً..

Comments are disabled