قصتي مع الصحافة

منذ نعومة الأظفار، كنت أحلم بالكتابة. أشتري مفكرة أو دفتراً أنيقاً وأحاول أن أكتب أي شيء يخطر ببالي. في ذلك الزمن كنا نعتني، خلال الدراسة الابتدائية، بجرائد الحائط. كان مصروفي الأسبوعي من الوالد ليرة سورية واحدة، هذا كان في أوائل ستينات القرن الماضي، ولم تكن الليرة مبلغاً صغيراً في تلك الأيام. لكنني كنت أقسمها ثلاثة أقسام: أشتري مجلة الأسبوع العربي بستين قرشاً، وأتصدق بعشرة قروش أدفعها لشخص فقير، وأترك ثلاثين قرشاً لي كمصروف جيب. بالطبع كنا نحصل في بعض المناسبات على بعض المال الإضافي، في الأعياد مثلاً، أو المكافآت وغيرها.

أقول: كان 60% من مصروفي يذهب لشراء مجلة الأسبوع العربي، كانت ليلى البعلبكي تكتب فيها، وأذكر مقالاتها عن الطفل الذي ستنجبه، وكان من الأساتذة الذين نقرأ لهم محمد السماك، وأسعد المقدم، وبقيت أحتفظ بالعدد الذي صدر لمناسبة ميثاق السابع عشر من نيسان الوحدوي 1963 لفترة متأخرة، وبسبب أسفاري وطبيعة حياتي المتنقلة في ما بعد، وأرشيفي الغزير الضائع، لا أدري ما حصل بتلك الصحف والمجلات التي كنت أحتفظ بها. لكن غلاف ذلك العدد من “الأسبوع العربي” كان صورة للزعيم الخالد جمال عبد الناصر إلى جانب عبد السلام عارف والفريق لؤي الأتاسي. كانت ذكريات كالحلم، يا لتلك الأيام التي لم يعشها جيل بعدنا، ميثاق السابع عشر من نيسان الوحدوي، بين مصر وسوريا والعراق، أيام المد الجماهيري الذي اغتالته نكسة حزيران 1967، ذلك الميثاق الذي كان علمه علم العراق الحالي دون عبارة “الله أكبر”.

منذ تلك الأيام حلمت بالحرف المطبوع، كنت شغوفاً بالآلة الكاتبة، ولم أستغنِ عنها إلا عندما أصبح لدي كمبيوتر في العام 1987، كنت أمارس الإخراج الصحفي دون أن أعلم أن ما أفعله يسمى إخراجاً صحفياً. كانت مساهماتي دائمة في مجلات الحائط، في المدرسة، ثم في الجامعة، وكنت أكتب المقالات فضلاً عن الشعر، الذي كنت أقيم الأمسيات له. وبقيت الصحافة حلماً لفترة طويلة نسبياً.

بعد التخرج من الجامعة، وبالتحديد ما بين عامي 1972 و1979، كانت فترة مضطربة في حياتي، ولا علاقة لها بالصحافة إلا لماماً، وسيكون لها مكانها في الذكريات، إذا منحني الله العمر والقدرة، لأنها كانت غنية بالأحداث والتفاصيل من نواحي الحياة جميعها.

في العام 1979 انتهت مرحلة من الاضطراب، وبدأت مرحلة أخرى. خرجت من شرنقتي واشتركت في معرض الزهور الذي تقيمه وزارة السياحة، ولكي أتميز بمعروضاتي عن باقي المعروضات، عرضت النباتات المائية، وصنعت لها أحواضاً زجاجية خاصة. مر صحفي على جناحي وأجرى حديثاً معي، كان هذا الصحفي (كنعان فهد) الذي أصبح صديقي بعد ذلك. تواعدنا في الـ”لاتيرنا” أو “القنديل” كما كانت تسمى، أتممنا اللقاء هناك، كان الجو مناسباً جداً بالنسبة لي، تعرفت خلالها على أصدقاء من الكتاب والصحفيين والفنانين والأدباء، مازالت تربطني بمن تبقى منهم علاقات صداقة. بدأت أرتاح بعد تلك السنوات العجاف، وبدأت أبني علاقات جديدة، وألبي ذلك البدوي الذي يسكنني، بإطلاق ساقيّ للريح، لا أحد يقيدني، ابتعدت عن الأهل وكل الذين كانوا يحاولون السيطرة على قراري بطريقة أو بأخرى، بعد تجربة عاطفية قاسية دامت ثلاث سنوات، وغربة مرة.

في ذلك العام كان الدخول الجدي إلى عالم الصحافة، بكل الأبعاد. قررت جريدة الثورة إصدار ملحق علمي أسمته “الأحد”، وقد أوكلت إلى كنعان مهمة سكرتير التحرير. كان كنعان، ومازال، يمطرني بالكثير من الأسئلة العلمية عندما نلتقي، ربما لأن له ثقة في معلوماتي العلمية، وشجاعتي بالتصريح بعدم المعرفة عندما لا أعرف، ولمس اهتمامي باللغة العربية, وكان من الطبيعي أن يدعوني للمشاركة بالملحق الجديد. كان ملحق الثورة المدخل الاحترافي الأول بالنسبة لي، لأمارس صحافة جدية، وبالطبع، كنت شغوفاً بتعلم أي شيء في هذا العالم الساحر، ويكفيني أن أمارس أي عمل مرة واحدة لينطبع في ذهني بشكل نهائي. لذلك كنت على استعداد دائم لأن أحل مكان أي زميل يتغيب، ليصدر الملحق في موعده صباح كل أحد. كتبت في “الأحد”، نشرت بعض المقالات التي قمت بترجمتها عن الإنكليزية، قمت بأعمال الإخراج، والخط، والتنفيذ، عندما تغيب الزملاء.

أذكر حادثة ربما كانت طريفة. ذات مرة تغيب المخرج، في ذلك الوقت كنا ننضد على آلة تدعى الإنترتيب، تعطينا الأسطر من مادة الرصاص، ثم تطبع على أطباق كبيرة من الورق، نقصُّها ثم نلصقها على ورق ندعوه “ورق ماكيت”. في الحقيقة كنت مستوعباً لكل ما يمكنني من القيام بعملية الإخراج، إلا قضية التشبيك (الشبك على الصور)، لم أكن قادراً على تقدير النسبة المئوية لكثافة الشبك، كي أعطي تعليماتي للتحضير، وكنا نستعمل القلم الأزوق الفاتح لكتابة التعليمات، لأن الضوء يخترقه في أثناء التصوير. وقفت حائراً، لكنني قررت أن أجرب، ليكن الشبك 30% مثلاً، ولنرَ كيف ستكون الصورة بعد الطباعة.

أخذت العدد، بعد أن أنهيت الإخراج إلى مطابع الجريدة، وكانت علاقاتي مع المعلمين في قسم التحضير جيدة جداً، لكنني لم أخبر أحداً بأنني مخرج هذا العدد. ورحت أساعدهم، وأتفرج عليهم، وكل شيء على ما يرام، حتى وصل “أبو ماجد” طيب الله ثراه، إلى موضوع الشبك. نظر إليّ وقال: 30%؟ لم أفهم ما قصد، لم أتمكن من معرفة ما إذا كان الرقم كبيراً أم صغيراً، لكنني علمت بأن في الأمر خطأ؟ سألني: أستاذ دريد مَن الحمار الذي أخرج هذا العدد؟ سيطرت على نفسي وأجبته: لا أدري. سألني: هل أنفذ تعليمات المخرج أم أتصرف من عندي؟ قلت: الذي تراه مناسباً. توقف قليلاً ثم قال: خليها على مسؤولية المخرج. ونفذ التعليمات.

بعد أن تمت طباعة العدد تناولت نسخة منه، وفتحت الصفحة التي تحتوي على تلك الصور، ويا ليتني ما فعلت، كانت الصور عبارة عن مستطيلات سوداء، لا ملامح فيها. عندئذ أدركت أنه كان علي أن أخفف الشبك، وكان أبو ماجد على حق. لكنني كنت مخرجاً نجيباً في العدد الذي تلاه. عندما أخبرت أبا ماجد بأنني أنا من أخطأ في العدد الماضي، راح يعتذر ويرجوني ألا أؤاخذه، لكنني قلت له: ولا يهمك..

هكذا كانت بداية الاحتراف، وانطلقتُ في عالم الكلمة، بين الصحافة والترجمة، في مملكتَي العلم والأدب، قارئاً متابعاً، وكاتباً مثابراً، أبحث عن جديد العلم، وبديع الأدب، مولياً الأعمال العلمية الأهمية الكبرى، بسبب النقص الواضح الذي تعانيه المكتبة العربية في العلوم، والكتابة العلمية، إضافة إلى الطلب الذي كان يتزايد على كتبي، على امتداد الوطن الكبير.

تشرين الأول (أكتوبر) 2007                             دريد نوايا

Comments are disabled