هذه المرأة العبقرية شبه الأمية

أنجبت ثمانية من الأولاد: خمسة ذكور وثلاث بنات، تركت العز الذي كانت تعيشه في بيت أبيها الغني، وعاشت مع ابن خالتها الفقير. تركت القصر وسكنت غرفة عند خالتها، وحماتها في نفس الوقت، تخدم شابين وبنتاً، إضافة إلى أمهم. سافرت مع الزوج الذي تطوع في سلك الدرك، في ثلاثينات القرن العشرين، والخطر يتهدد الزوج الغائب الحاضر، في عهد الاحتلال الفرنسي لسورية، وتحملت تلك المرأة التي غلب عليها طبع الحماة على طبع الخالة أخت الأم. ماتت أمها صبية في الثلاثينات من عمرها، بعد أن أنجبتها وأختها التي تكبرها ربما بثلاث سنوات، فتزوج الأب من امرأة تقارب ابنتيه بالعمر. حين تضايقت سكنت في غرفة من قصر أبيها مع زوجها المسافر في أغلب الأيام.

إنها أمي، المرأة العبقرية شبه الأمية، التي لم تكن تعرف من القراءة سوى قراءة القرآن الكريم، ولا تعرف الكتابة، لكنها استطاعت أن ترعى أسرة، وتدير شؤونها في غياب الأب، حتى تخرجت البنت البكر “لمعة”، تفوقت في الثانوية ودرست اللغة الإنكليزية وآدابها في جامعة دمشق على حساب الدولة، ثم “زهير” طبيب الأسنان المبدع الذي سافر إلى السعودية أربعين عاماً قبل أن يعود، ثم “ظبية” أول طبيبة أسنان الأولى في مدينة حمص، والوحيدة لمدة عشر سنوات، وأشهر من نار على علم، وهي الآن لا تزال تمارس المهنة للسنة الحادية والأربعين، ثم كاتب هذه السطور الذي قلَّب الحياة بحلوها ومرِّها وتمرد حتى على السلطة الأبوية ورفض الوصاية بكل أشكالها، وتخرج مهندساً زراعياً، ثم “وليد” الذي ترك الجامعة بناء على رغبته وتزوج ثم غادر إلى السعودية لمدة ست وعشرين عاماً، ثم “تغريد” المهندسة الكهربائية المتألقة في عالم الهندسة، ثم “طريف” الذي آثر الدراسة في مدرسة المراقبين الفنيين وتخرج منها، ثم “ربيع” المهندس الكيميائي الذي يدير معملاً يصدر إنتاجه إلى خارج البلد.

تعلمنا منها عزة النفس، والجدية، والكرم، وبأن ما لدينا لنا، وما ليس لنا للغير، وما لدينا هو الأفضل حتى ولو كان الأسوأ، لم نحسد أحداً على مال أو جاه، كنا مكتفين باعتماد العلم منهجاً وأسلوباً في الحياة.

كان بيتنا القديم كباقي خلق الله، غرفاً من الحجر والطين، وغرفة واحدة إسمنتية، مسقوفة بألواح التوتياء، ومن الداخل بالخشب كسقف مستعار، وكانت هذه الغرفة للاستقبال. وللدار فسحة سماوية تحتوي على الياسمين وأنواع الأزهار الأخرى، والورد، وشجرة طرفاء تعلو كل شيء في البيت. كانت هذه الشجرة العرش الذي أمضيت طفولتي عليه، أميراً لا يحسد إنساناً على وجه البسيطة. كنت أتناول طعامي على الشجرة، وأغني، وأؤذن مع المؤذن، وأمسك بقصفة من أغصانها مقلداً العزف على العود، الآلة الموسيقية التي عشقتها، وحكايتها أرويها منفصلة.

تستيقظ أمي في الصباح يومياً مع صلاة الفجر، تغسل الغسيل، وحين نستيقظ تعد لنا طعام الفطور، ثم تقوم بتنظيف البيت، والطبخ، وغير ذلك، تعمل طوال النهار، ولا يصل المساء إلا وتكون قد تعبت، فنسهر قليلاً، ثم ننام. وفي أوقات الدراسة تهيئ لنا كل شيء، وقد مضت عقود من الزمن لا يعرف بيتنا شيئاً اسمه الرسوب. علمتنا كيف نأكل، كل منا يستخدم صحنه، وكأسه، وملعقته، ومنشفته. وكان علينا أن نغسل أيدينا قبل الطعام وبعده، وكثيراً ما تعرضنا للنقد بسبب ذلك. وكان ممنوعاً علينا أن نترك أي كمية من الطعام في الصحن بعد أن نشبع: “اسكب أقل مما تتوقع أن تأكل، يمكنك في ما بعد أن تسكب المزيد”، والسكب طبعاً بملعقة السكب، لم نتعود أبداً أن نمد ملعقتنا إلى الصحن الرئيسي لنسكب. كنا أصحاء، نادراً ما كنا نذهب إلى الطبيب.

حملت همومنا حتى ونحن كبار، وكان ربيع أصغرنا، وبعد أن تخرج، وكان توظيف المهندسين إجبارياً بعد التخرج، تم تعيينه في أحد المصانع. باشر ربيع عمله يوم الخميس 23/2/1989 فاطمأنت عليه، وبعد يومين، أي يوم السبت 25/2/1989 أغمضت عينيها للمرة الأخيرة، وصعدت روحها الطاهرة إلى بارئها.

الكتابة عن الأم صعبة جداً، لأنها تاريخ الأسرة بكاملها، فبعد أن رحلت أمي عن الدنيا، خلا الجو للعبث، وافترق أغلبنا، ولا أريد الخوض في ما حدث لكي لا أمس أحداً، أو أثير حساسية، أو أنكأ جراحاً. ربما كانت قصائدي الوجدانية تحكي شيئاً من هذا. وكما قال الأقدمون “الأم بتلم”، وهذا أكيد.

Comments are disabled