سحر المذيعات..

الإعلام المسموع: سحر الصوت والأداء

لا أذكر أنني أعجبت بممثلة، مثلاً، بحيث أصبحت ممن يلهثون خلف أعمالها الفنية. أحببت الوجوه والأصوات، وكانت لي دائماً خصوصيتي في اختياراتي. لم أحب السينما في حياتي، ولا الرياضة، وكانت الكلمة الجميلة تسحرني، وكذلك الجملة الرشيقة، خاصة حين تخرج من فم متقِن لفن الإلقاء، أو من حنجرة ذهبية تغلغلت أصداء أوتارها في كيان المتلقّي، فأصغى إليها بكلِّ ما لديه من إحساس، وحلَّق معها إلى حيثُ تأخذه..

هيام حموي نموذج لظاهرة:

على الرغم من اختطاف التلفزيون لجمهور الراديو، بقي الأخير سيد الموقف سنوات طويلة، ربما لأن عدد المحطات الأرضية (1 أو 2)، وكذلك عدد ساعات البث التلفزيوني كان محدوداً! وبقينا سنوات وسنوات نستمع إلى الراديو، وكانت لنا برامجنا التي ننتظرها من أسبوع إلى أسبوع. وهكذا، كان الصوت الجميل العامل الحسي الأول في التأثير، إن لم نبالغ ونقول: الوحيد، وإذا قلنا ذلك لم نجانب الحقيقة كثيراً.

في العام 1970 على ما أذكر، أو العام الذي تلاه، اجتذبت إذاعة مونتي كارلو انتباه الكثير من الناس، وخاصة الشباب، الذين كانوا يستمعون إلى ما تقدمه من الأغاني الأجنبية، دون أن يفهم أغلبهم شيئاً منها، سوى أن الموجة كانت تجتاح الجيل الشاب، دون وعي على الأغلب، كمظهر من مظاهر “التميز” في الذوق! ربما!

في الحقيقة، كانت في مونتي كارلو نخبة من الإعلاميين والإعلاميات، تم انتقاؤهم بعناية شديدة: جورج قرداحي، مهيار حيدر، عادل مالك، حكمت وهبي، وداد علم الدين، ثناء منصور، غابي لطيف، مريم مراد وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة الآن لسرد أسمائهم، وذلك على فترات متفاوتة طبعاً.

لقد أغفلتُ ذكر هيام حموي بين زملائها عن قصد، لأنني أحببت أن أفرد لها حديثاً خاصاً، لأنها كانت، وما زالت، أميرة مذيعات الراديو، وسيدة من ألقى بلغة الضاد.

حين استمعت إلى صوت هيام وأدائها من الراديو، وكانت حريصة على لفظ اسمها صحيحاً (هُيام) في البداية، سحرني هذا الصوت، وهذا الأداء، فأدمنت إذاعة مونتي كارلو كرمى لعيني هيام. كنت حينئذ طالباً جامعياً، وكلما استمع أحد الأصدقاء إلى هيام، سُحر بها، حتى أن أحد الأصدقاء علّق مندهشاً، بعد استماعه إليها للمرة الأولى:

– يا إلهي!! ما هذا الأداء؟ ما هذا الصوت؟ هل هي تتكلم؟ أم تغني؟

تابعت الصوت الذي عشقته في البيت، في المكتب، في المزرعة، في السيارة، ليس سنوات، بل عقوداً من الزمن، وانتقلت معه إلى إذاعة الشرق التي أخذت تتألق فيما كان نجم سابقتها مونتي كارلو يخبو ويتلاشى.

منذ سنوات طويلة، قال لي صديق، وكان يشغل منصب مدير برامج إحدى الإذاعات الرسمية، معلقاً على إعجابي بهيام:

  • – لقد كانت عندنا في إذاعة دمشق، في الهندسة الإذاعية!

قلت مجيباً:

  • – إنكم موهوبون في اختيار الشخص غير المناسب للمكان غير المناسب! لذلك يختطف الآخرون الموهوبين منا، ليتفوقوا ويتميزوا في البلاد الأخرى.

في تلك الظاهرة التي تدعى هيام حموي، كنت أجيب أصدقائي القدامى الذين يَعجَبون لمثابرتي على الاستماع إليها كل هذه السنوات:

– إنها الحب الأطول عمراً في حياتي..

هيام اليوم في إحدى المحطات المحلية السورية، بعد أن أمضت عقوداً في الغربة، ثروة إعلامية لا تنضب. مازال صوتها كما هو، وأداؤها كذلك، أطال الله عمرها ومنحها الصحة.

حكمت بين معترضتين: دكتوراه لمدة ربع ساعة!

أما المرحوم حكمت وهبي، فكانت لي معه حكاية صغيرة. إذ اتصل بي أحد الأصدقاء ذات مساء في أواخر الثمانينات على الهاتف، وطلب مني أن أستمع، بسرعة، إلى إذاعة مونتي كارلو، وأغلق الخط دون أن يذكر لي السبب. أسرعت إلى الراديو فاستمعت إلى كلام لي، يقرؤه حكمت وهبي، وأنا أعرف جملتي لمجرد سماعها، لكنني لم أذكر للحظات أين نُشر هذا المقال.

تابعت حكمت، فمنحني شهادة الدكتوراه عندما قال: “يضيف الدكتور – بدلاً من المهندس – دريد نوايا..”.

حزنت كثيراً للرحيل المبكر لهذا المذيع الموهوب، فقد كان ظاهرة أكثر من إذاعية تستحق التوقف عندها.

*     *     *

الإعلام المرئي: تطور المعايير

في التلفزيون اختلفت الأمور، أصبح الصوت مرتبطاً بالصورة، والإطلالة، والموقف من القضايا المطروحة، وأصبح الحضور محصلة لكل هذه العوامل وغيرها، فتغيرت معايير القبول لدى المشاهد، عن معايير الأداء الإذاعي.

لا أحد يستطيع أن ينكر أن في محطاتنا التلفزيونية العربية إعلاميين وإعلاميات مدعاة للفخر، ومنهم محاورون ومحاورات قمم في محاورة الضيوف، بحنكة احترافية، وخبرة، ولباقة وهدوء في الأداء، وجاذبية تشد المشاهد، وتأسره أيضاً.

لا أود أن أذكر أسماء لئلا أقع في شرك خيانة الذاكرة حين (ترَوكب) في كثير الأحيان، ولأن في كل محطة مواهب وملَكات لا يُغتَفَر إهمالُها. لذلك سأنتقي زهرة فواحة واحدة، من باقة أزهار، تغلغلت في الأعماق، كنحلة دؤوب، مادتها الخام رحيق الأزهار، وناتجها النهائي العسل بشهده.

عند انتشار الفضائيات، والسماح باقتناء الوسائل التي تسمح بالتقاطها في سورية، أواسط تسعينات القرن الماضي، كنت، كغيري من عباد الله، أقلِّب بين تلك المحطات، وأتنقل من محطة إلى أخرى. كانت “الجزيرة” بقوتها وأسلوب طرحها الجديد علينا مثار الاهتمام، لذلك كانت محطتي المفضلة الأولى. أما باقي المحطات فكانت، على الأغلب، مقلِّدة لا أصيلة، أو نوعاً من الرفاهية يهم الأولاد أكثر من الآباء المهتمين بالشأن العام عادةً.

زينة فياض: أسر المُشاهد..

ذات مساء، كنت أقلب بين الفضائيات، متوقفاً للحظات عند تلفزيون المستقبل. كانت الساعة تقترب من الثامنة مساءً، وما إن شاهدت شارة الأخبار، أبقيت التلفزيون عليها، يحدوني الفضول في الاكتشاف، ليس أكثر.

أطل على الشاشة وجه جميل، تعلن صاحبته عن نشرة للأخبار، بصوت جميل قادر، ونبرة جادة تدل على قوة في الشخصية، واستيعاب لما تقول.

لحظات، وكُتب اسم الإعلامية على الشاشة “زينة فياض”. في الحقيقة، لم أكن قد سمعت بهذا الاسم من قبلُ في عالم الإعلام المرئي، لكن الأداء كان احترافياً.

شاهدتُ النشرة وأنا أراقب هذه الشابة المتوثبة، الواثقة من نفسها إلى أبعد الحدود، بإطلالتها وجاذبية ملامح وجهها، وصوتها المتفرِّد بهذا الـ”base” القوي الذي يميزه، محافظاً على أنوثته، مضفياً على الشخصية الكثير من التفرد والخصوصية.

في اليوم التالي أو الذي تلاه، قصدت أن أشاهد تلفزيون المستقبل، في الثامنة مساءً، لأشاهد هذه الزينة، التي انطبعت شخصيتها في الذاكرة منذ اللحظة الأولى، وليس لمتابعة الأخبار، التي أُُتخِمتُ بها من محطات أخرى.

أطل الوجه الجميل من جديد، وتبعه الصوت الواثق، لكنني اكتشفت هذه المرة الوضعة “pose” التي تميزت بها هذه الإعلامية الملفتة. فقد كانت شامخة، رافعة رأسها، وأنفها الجميل المرفوع يزيد من اعتدادها بنفسها. كانت يداها متباعدتين مستندتين إلى الطاولة، وصدرها متقدماً، فقلت معلقاً:

– انتبهوا.. في لحظة ما، ودون سابق إنذار، ستقفز هذه الغزالة من الشاشة التي يبدو أنها ضاقت بها. أفسحوا لها الطريق والمكان.

من ذلك اليوم، أصبح اسم زينة فياض في بيتنا “الغزالة”. واكتشفت بعد ذلك أن الكثير من الناس يعرفونها قبلي، وأن الكثير أيضاً مغرم بإطلالتها، واستمعت إلى قصص طريفة لم أكن أعرفها: فلان وزوجته وصلا إلى الطلاق نتيجة إعجاب الرجل بزينة، وحرصِهِ على متابعتها على الشاشة، بسبب قلة عقل الزوجة الغيورة!

تعلقت بالغزالة كإعلامية، وأصبحت حريصاً على مشاهدتها بقدر ما يسمح لي وقتي، وحين لا تُتاح لي مشاهدتها، أستمع إليها من خلال راديو السيارة، من إذاعة الشرق، حتى كان يوم افتقدتها طويلاً في تلفزيون المستقبل. في ذلك الوقت، اكتشفت الأثر العميق الذي يتركه حضور الإعلامي لدى مشاهده، لكن افتقادها لم يدم طويلاً حتى أطلت من جديد على شاشة الجزيرة.

كنت أستمع، قبل ذلك، إلى بعض الأخبار التي تتحدث عن عروض الجزيرة لها، حتى قيل إن الشهيد الرئيس رفيق الحريري تدخل شخصياً، رافضاً التخلي عنها في تلفزيون المستقبل لصالح الجزيرة، وبأنها ملكة “المستقبل”.

حين عثرت عليها من جديد على شاشة الجزيرة شعرت بفرح غامر، وصارت متابعتها على الشاشة المفضلة أكثر سهولة. لكن ذلك لم يدم طويلا، فقد اختفت “الغزالة” مرة أخرى، وطال الغياب هذه المرة، وإذا أضفنا إلى ذلك الانشغال بالعمل بسبب متطلبات الأولاد التي اتسعت، بعد أن أصبح الاثنان في الجامعة، أدركنا السبب في طول المدة التي استغرقها البحث.

من جديد طالت فترة البحث، أخذت بعضُ وسائل الإعلام تردد أخباراً حولها، بقصد الإساءة والغمز، وكان من الواضح أن خلف ما تردد من يريد استغلال حدث ما، لغاية في نفس يعقوب. لكن حكمتي في الحياة تقول: “إذا كانت الأصوات تعلو من خلفك، فاعلم أنك في المقدمة”.

هنا، ظهر جانب آخر من شخصية زينة فياض، لمن يراقب عن بعد، وذلك في عزوفها عن الإغراءات لأسباب أخلاقية وطنية، ومن ثم اختيارها لمحطة جديدة، لا تصادر قناعاتها، بحيث تستطيع أن تطرح تميزها بكل إيجابياته، جاذبة محبيها إلى هذه المحطة التي تميزت ببرامجها الحوارية، والحرية الواضحة لمعدّي هذه البرامج ومقدميها، وخلال فترة زمنية قصيرة اجتذبت جمهوراً عريضاً من المشاهدين الجادين، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وانتماءاتهم.

عن طريق الصدفة أيضاً، أطلت زينة بحضورها الأخاذ، واجتهادها المعهود، ووطنيتها الصادقة، وجرأتها المشبعة باللباقة واحترام المتلقي، لتقدم جرعات من التفاؤل والأمل للذين سئموا عرضَهم في سوق النخاسة الدولي، من قِبل زعمائهم التقليديين، وأصبح الاغتراب هاجسهم وكلَّ أحلامهم.

اسمحي لي سيدتي أن أحبك، لأن من يتابعك لا تكفيه كلمة “إعجاب”.

*     *     *

المستقبل: لونا نوايا.. نموذجاً

مهما تطورت التكنولوجيا وتقدم العلم، يبقى الإنسان السيد المطلق في هذا الكوكب. أليس هو مَن أبدع كل ما ميّزه عن باقي مخلوقات الله؟! لذلك، حكم الإنسان نفسه بأحد أمرين لا ثالث لهما: إما التطور المستمر، وإما التخلف، ومن ثَمَّ التلاشي.

كانت ابنتي تكبر، وتُبدي اهتماماً بالكتابة، فتركتُ الأمر يتجه إلى حيث يريد، ألم تكن مهتمة بالرسم، وكانت رائدة فيه على مستوى الجمهورية، ثم أقلعت عنه؟ مادامت الأرضية الثقافية متوفرة، لا خشية عليها أو على أخيها.

في الحقيقة، كان الإعلام حلماً ليس من المؤكد إحرازه. إنه يتطلب الإرادة الملحّة، والإمكانات الشخصية، وتوفر الأدوات اللازمة، والإعداد المضني، واقتناص الفرص المتاحة، بل خلق هذه الفرص. كل ذلك مع المحافظة على الكرامة، المبرر الأول لهذا الوجود.

لقد خبرت هذا الجو في مختلف جوانبه، وما لم أمارسه بنفسي، شهدت أمام عيني من مارسه، واستمعت إلى ما يحكي في الخفاء والعلن، من اتهامات، بعضُها صحيح وبعضها ملفَّق. وبالنظر إلى كوني متنوراً، لا يحكمني “طوطم” جاهز، وكل شيء مطروح للقناعة والإقناع وتغليب المنطق، نظرت إلى الأمر من باب الأمنية غير العصية على التطبيق، عندما نكون صادقين مع أنفسنا، في تقييمنا للأمور بعين الغير المترصد، لا بعين الصديق المُجامل.

أبدت ابنتي “لونا” رغبتها في دراسة الإعلام، ونالت الشهادة الثانوية، فكان من الطبيعي أن أستجيب لها، ثم أكلفها بأعمال صحفية، بعد أن شكلت مجموعة من زملائها وزميلاتها، فعملوا تحت إشرافي المباشر. بعد ذلك كانت الدورات المتخصصة، والمراقبة المستمرة، حتى بدأ الحلم يقترب من الحقيقة.

هل ستكون ابنتي كزينة فياض مثلاً، بحضورها القوي، وإطلالتها المتميزة؟ كل الإجابات تقول: نعم. لذلك كان عليها أن تتتلمذ على زينة، كأستاذة افتراضية، ثم تتخذ لنفسها ما يميزها.

قد تكون شهادتي مجروحة إلى حد ما بابنتي، لكنني أبشّر بمولد إعلامية سيكون لها شأن في عالم الإعلام، وللسنوات القليلة المقبلة القول الفصل.

“لونا نوايا”.. لا تنسوا هذا لاسم!

21 تشرين الثاني 2007

Comments are disabled