أبو حسن

كنت أسيرُ في شارع الليدو وسط العاصمة القبرصية، فاستوقفني شخص لا أعرفه وهو يسألني إن كنتُ عربياً، وطلب مساعدتي لشراء دواء له من صيدلية، كونه لم يتمكن من شرح حالته للصيدلي.

رحبت بالرجل، وطلبت منه أن يدلني على الصيدلية، فنحن في وسط العاصمة، فاكتشفت أنه دخل محلاً لبيع مواد التجميل. المهم أنني ساعدته على شراء الدواء، وهممت بالاستئذان عائداً إلى بيتي، لكن الرجل عرَّفني بنفسه، منتظراً مني أن أُفاجأ به سائلاً إياه بدهشة:

  • حقاً أنت فلان!!!!!

لكن هذا لم يحصل، كوني أسمع بالاسم للمرة الأولى، وذكرت له اسمي كردّ على مبادرته بالتعارف، محاولاً مصافحته ووداعه. لكنه أمسك بي داعياً إياي لتناول الغداء معه، فشكرته بنفس الحرارة، محتجاً بوجود ضيوف لدي في البيت على الغداء، فأصر علي أن أقبل دعوته على فنجان قهوة، وتحت إلحاحه لبيت دعوته، وكان ذلك في فندق ريجنت.

عرّفني الرجل بنفسه أكثر، وبدأ يذكر لي أسماء أشخاص تربطني ببعضهم صداقة، ويروي لي حوادث طريفة معهم، ولم يتركني إلا عندما دعوته لبيتي، وكتبت له العنوان على ورقة، لأنه لا يعرف شيئاً باللغة الإنكليزية.

مساء ذلك اليوم زارني “أبو حسن” في بيتي، وتعرف بأصدقاء لي، أغلبهم يعمل في حقل الصحافة أو النشر، فأُعجب الرجل بهذا المستوى الذي يتمتع به أصدقائي، وبدا عليه نوع من الارتياح والفخر، حتى أنه واظب على زيارتي، وصار يتواعد مع أصدقائي في بيتي، الذي كان يعج بالأصدقاء بشكل مستمر.

من بين الأصدقاء “المشتركين” كان صديقي الشاعر حسين حمزة، وصديقي المرحوم حسين حلاق مدير دار الكلمة في بيروت. وذكر لي اسماً مشهوراً في عالم المال، يعيش في الإمارات العربية المتحدة، على أنه صهره زوج أخته، وهو (أبو حسن) يعمل لديه وكيلاً. لم أدقق كثيراً في أوضاعه، لكنني كنت أستمع إليه، وهكذا كان أصدقائي.

جاءني بعد أن أصبح “زبوناً دائماً” لدي يومياً على الغداء والعشاء، وكان بيتي مفتوحاً، ويقوم الأصدقاء بكل الأعمال، من تنظيف وطبخ وغير ذلك، ولم أكن مسؤولاً إلا عن إحضار اللوازم، والانتباه لعملي في الكتابة والرصد الإعلامي والتحليل الإخباري، وظيفتي الرئيسية.

كان “أبو حسن” ينقل لي تحيات صهره الذي التقى حسين حلاق في الإمارات وسأله عني، فأثنى الرجل على أخلاقي وسلوكي وأمانتي، وبأنه ينتظر فرصة للتعرف بي. ورددت عليه بشكري الجزيل. لكن “أبا حسن” أبدى استياءه من حسين حلاق، لأنه كان مدبراً للانقلاب الفاشل الذي حدث في 18 تموز (يوليو) 1963، في دمشق، وتسبب في إعدام سبعة وعشرين عسكرياً، منهم العقيد رئيس أركان سلاح الإشارة، الذي كان صديقه، ولجأ (حسين) إلى القاهرة في حماية الرئيس عبد الناصر (روى لي حسين الكثير عن تلك الفترة قبل وفاته بحوالى الشهرين).

بعد أيام قليلة، طلب “أبو حسن” أن يقترض مني خمسمئة دولار لأن صهره تأخر عليه بتحويل مبلغ كبير، فلبّيته دون تردد، وأبلغني أيضاً أن صهره رصد مبلغ خمسة ملايين دولار لتأسيس دار نشر ومطبعة، و(يتمنى) أن يسلمني إدارتها، وإذا وافقت يدخلني شريكاً دون أن أدفع شيئاً.

ظن “أبو حسن” أنه يستطيع أن يحكمني من خلال هذا العرض، لكنني أخذت الأمور بشكل عادي، إلا أنه صار ينقل لي رسائل يومية من صهره، تدل على اهتمامه الشديد بي، والحقيقة أنني لم أكن أنتظر حصول ذلك، لأنني أكره العمل في دول الخليج بسبب ما أستمع إليه من قصص الكفلاء الذين يمارسون أصنافاً من القهر على من يكفلونهم، وهذا ما لا يناسب طبعي التواق دائماً للحرية، واستقلالية الشخصية، وعدم السماح لأحد، مهما علا شأنه، بالتدخل بقراري الحر 100%.

باحتصار شديد، حضر أحد الأصدقاء بعد ظهر أحد الأيام ليبلغني أن حسين حلاق وصل نيقوسيا للتو، وبأنه أحضره من المطار بسيارته، وطلب منه المرور علي ليبلغني أنه في فندق “هيلتون”، وينتظرني. كان أبو حسن حاضراً، وكنا نتناول طعام الغداء، فأسرعت ونهضت للقاء أحد أعز الأصدقاء، وكانت قد انقضت فترة ثلاثة أشهر لم أره خلالها.

امتعض أبو حسن للأمر وسألني إن كنت سأذهب للقاء حسين، فأجبته: نعم وفوراً. قال: أليس علينا أن (نشاور) صهره في الإمارات أولاً؟!! استغربت كلامه وأجبنه على الفور:

  • أبلغ صهرك بأنني غير موافق على مشروع دار النشر والمطبعة، ولا تحاول مرة أخرى التدخل في أي أمر يخصني وحدي، وأرجو أن يكون هذا مفهوماً جيداً الآن وفي المستقبل.

ومضيت إلى فندق “هيلتون” للقاء الصديق العزيز. لكن موقف “أبو حسن” لفت انتباهي، وأدركت أنه لا يريدني أن أقابل حسين لسبب مازال مجهولاً لدي.

من حديث لحديث سألت حسين إن كان يعرف فلاناً (صهر أبو حسن) معرفة شخصية، فأجابني بأنه يعرفه معرفة عابرة، ولا تجمعهما علاقة صداقة. بعد قليل، حاولت تمرير سؤال آخر: هل التقيته في الإمارات، فنفى حسين نفياً قاطعا أن يكون قد شاهده، حتى من بعيد. بعد ذلك مرّرت سؤالاً ثالثاً: هل سألك أحد عني هناك في الإمارات؟ فكر حسين قليلاً ثم أجابني بالنفي القاطع.

ودعت حسين ليستريح قليلاً من عناء السفر، وتواعدت معه في المساء والسهرة، وعدت إلى البيت، فلم أجد أبا حسن. انتظرت للمساء، ثم ذهبت إلى فندق ريجنت والتقيت أبا حسن هناك، وسألته عما كان يقوله لي نقلاً عن صهره، فادعى بأن هناك تشابهاً في الاسم، إذ أن شخصاً آخر بنفس الاسم التقى صهره هناك، وبأن كل ما قاله صحيح. قلت له: لكن حسين حلاق الذي قابلته اليوم هو نفسه الذي قام بالانقلاب الفاشل، ثم هرب إلى لبنان فمصر، وهو الشخص الذي تلومه على التسبب بإعدام الشباب أبطال الانقلاب، فحاول التهرب بشكل مكشوف لأغبى الأغبياء. قلت له:

  • اسمع يا أبا حسن.. بيني وبينك خمسمئة دولار، أرجو أن تعيدها لي، ثم تشرح لي لماذا كذبت علي، ولا تحاول الهرب لأنني اتصلت بدائرة الهجرة (الإميغريشن) ولن يسمحوا لك بالسفر، فوعدني في الغد.

رويت لأصدقائي حقيقة “أبو حسن”، واكتشفت بأنه لم يترك أحداً من أصدقائي لم يأخذ منه مبلغاً، كلاً حسب قدرته، ولم يردَّه أحد خائباً، فاتصل الجميع به مطالبين بديونهم. أما أنا فقد ذهبت إليه في صباح اليوم التالي حسب الموعد، لكنه طلب مني الانتظار للمساء، فقلت له: اكتب لي ورقة بالمبلغ، فجاءه الفرج، وأخذ يكتب، لكنني في الحقيقة كنت أريد أن أرى جواز سفره لأتأكد من اسمه، وأعلم أن الورقة التي أطلبها لا قيمة قانونية لها. وحين طلبت الجواز لإثبات هويته تلكّأ ورفض أن يريني إياه.

حين وجد نفسه (محشوراً في خانة اليّك) سألني: هل تقبض المبلع بالعملة القبرصية؟ أجبته: موافق. فذهب إلى صاحب الفندق، ولا أدري بأي لغة تفاهم معه، فأخرج الرجل حقيبته وراح يعُدّ له المبلغ، ثم عاد وهو يشكرني. وهكذا فعل مع جميع من استدان منه ممن لهم علاقة بي.

بعد أيام، اكتشفنا أن لأبي حسن أسماء كثيرة، ومجموعات عديدة من الأصدقاء لا يعرف بعضُهم البعضَ الآخر، وإن كان لدينا “أبو حسن”، فهو لدى مجموعة أخرى “أبو محمود”، ولدى مجموعة ثالثة “أبو سليمان”، ورابعة “أبو علي”، وهكذا.

لم يخرج أبو حسن من جزيرة قبرص حسب سجلات الأمن العام.

لم يعد أحد يرى أبا حسن في جميع أنحاء الجزيرة.

لا أحد يعرف أين هو أبو حسن! على الأقل خلال فترة إقامتي هناك!!

Comments are disabled