قارئة الفنجان

كنا ثلاثة أصدقاء، نستأجر بيتاً واحداً مؤلفاً من ثلاث غرف وصالون، اثنان منا من مدينة أخرى، وواحد ابن العاصمة. لكن الصديق الثالث لم يكن دائم الإقامة، وكانت غرفته غالباً لاستقبال الضيوف القادمين من مدن أخرى، لكننا كنا متفاهمين، وكثيراً ما كنا نترافق في سهراتنا، سواء في البيت، أم في المطاعم وأماكن السهر، ونستقبل أصدقاءنا الآخرين معاً، وبالطبع كنا عازبين في بدايات الحياة العملية.

ذات ليلة، وبينما كنا نتناول العشاء، والطاولة ملأى بأصناف الطعام والشراب، حضر صديقنا غير المقيم، ترافقه فتاة جاءت من مدينة أخرى، فجلسا معنا يشاركانا الطعام، بعد أن عرّفَنا بصديقته. وبعد قليل، أبلغنا بأن الضيفة ستنام في غرفته، وانصرف إلى بيته.

اعتذرت الفتاة لأنها متعبة من السفر، ودخلت غرفتها ونامت، بينما كنا نتابع سهرتنا، ثم دخل كل منا غرفته ونام.

في الصباح، استيقظنا على نقرات “أمل” على الباب وهي تدعونا لتناول القهوة، فجلسنا على الشرفة، بين أشجار حديقة الجيران في الطابق الأرضي، إذ كانت شقتنا في الطابق الأول، فأبلغتنا “أمل” إعجابها بأخلاقنا، وكانت قد اتخذت احتياطاتها، وسحبت السرير لتسدّ به باب غرفتها، لكن أحداً لم يحاول فتحه، فضحكنا، لأننا لم نعتَدْ خيانة أصدقائنا، بل نعتبر أنفسنا مسؤولين عن الأمانة التي ائتمننا عليها صديقنا، وهذا ما جعل “أمل” ترتاح بيننا، وتقيم لعدة أيام لدينا، وكأنها أخت لنا.

أقول: شربنا القهوة، فطلبت “أمل” منا أن نقلب فناجيننا، لأنها تتقن فن قراءة فنجان القهوة. ومن باب التسلية، فعلنا ما أرادت، دون أية قناعة بما يمكن أن تخبرنا به.

حين أمسكتْ بفنجاني ونظرت فيه، ذكرت لي أموراً اعتقدت بأنها عادةً ما تقولها لأي شاب حين تقرأ فنجانه. ذكرت لي قصة يمكن أن تحدث مع أي شاب في مثل عمري، قالت: هناك فتاة صغيرة تحبك، لكنك لا تأبه بها، فابتسمت لأنني لم أجد في كلامها شيئاً جديداً، وتابعت بأنني لا أعيرها أي اهتمام بسبب قرابة بعيدة تربطني بأهلها، لكنها تأمل في أن تلفت انتباهي، فاعتبرت الأمر عادياً، ويمكن أن ينطبق على أي شاب. لكن ما أدهشني أنها توقفت قليلاً وهي تنظر في الفنجان بعمق، ثم قالت:

  • ها هو اسمها مكتوب هنا.

نظرت في الفنجان فوجدت الاسم فعلاً مكتوباً بخط واضح جداً، ورحت أربط كلامها مع بعضه البعض. بالفعل كنت قد وجدت في سيارتي رسالة منها، فأهملت الأمر بسبب صغر سنها وقرابتي منها ودخولي بيت أهلها متى أشاء، فهي لا تزال مراهقة، وتذكرت أنها كتبت لي شيئاً باللغة الإنكليزية على دفتر أحضرته لي لتسجيل نتائج لعب الورق مع إخوتها ووالدها، وكانت تهمس لي بين الحين والآخر وتلومني لأنني (عديم الإحساس والملاحظة)، وكنت أتجاهلها.

هل يصدق فنجان القهوة عند التبصير به؟ إنها المرة الوحيدة التي صدّقتُ فيها فنجاني، خاصة وأنني لم أروِ قصتي مع هذه المراهقة لأحد على الإطلاق، بل لم أكن أذكرها إلا عندما كانت تذكرني هي بنفسها.

Comments are disabled