مرشح للرئاسة اللبنانية الأولى يطلب مساعدتي

رن جرس الهاتف في مكتبي، في حوالى العاشرة والنصف صباحاً، من أحد أيام الأربعاء، في خريف 1995، لدى اقتراب موعد ترشيح وانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، يخلف الرئيس إلياس الهراوي، بعد أن أنهى مدة ولايته.

كان هناك ثلاثة احتمالات يتحدث الناس بها:

  1. إما أن يُمدَّد للرئيس إلياس الهراوي لمدة ثلاث سنوات.
  2. أو أن يُنتخَب العماد إميل لحود، قائد الجيش آنذاك، رئيساً للجمهورية.
  3. أو أن يُختار اسم جديد خارج الاسمين المطروحين لتولي المنصب الرفيع.

“مكالمة من لبنان” هكذا أبلغني صديقي الذي رد على الهاتف.

قال لي المتكلم: “أنا فلان، أبو جورج”، فرحّبت به كعادتي مع أصدقائي. لكنني استغربت هاتفه، كونَهُ لم يطلبني على الهاتف من قبل، وتوجست شراً، لأن أبا جورج يعمل مديراً لإحدى مؤسسات صديق عزيز لي، وتوقعت أن ينقل لي خبراً سيئاً، لم يستطع صديقي “الشيخ”، أن يخبرني به.

طلب أبو جورج مني أن يقابلني بأسرع ما يمكن، فحاولت أن أعرف منه السبب، لكنه امتنع عن ذلك، مؤكداً لي أن صديقي “الشيخ” بصحة جيدة، ويقرئني السلام، فاعتذرت منه لعدم تمكني من الحضور إلى بيروت في ذلك اليوم لارتباطي بمواعيد كثيرة في دمشق، فأجابني بسرعة: “أنا أحضر إلى دمشق، إن لم يكن لديك مانع”، فرحّبتُ به، وتواعدنا في السادسة مساءً، في فندق الشام، صالة البرازيل، لأنه لم يرغب الحضور إلى المكتب.

شغلني أبو جورج، ورحت أحاول أن أتوقع ما يريده مني، فعلاقتي به أقرب إلى الرسمية منها إلى الحميمية، ولا يمكن أن تكون لديه مشكلة عائلية، مثلاً، يريد مني أن أساهم في حلها، أو أن تكون هناك مشكلة بينه وبين “الشيخ”، وراحت أفكار كثير تخطر لي، محاولاً معرفة ما يريده مني أبو جورج.

قبل السادسة بعشر دقائق، حضرت إلى موعدي، فوجدت أبا جورج بانتظاري، جالساً إلى أقرب طاولة من الباب، في إحدى صالات الفندق الخماسي النجوم. وما إن جلست، بادرته القول: “شغلتني يا أبا جورج، ما القصة؟”. صمت أبو جورج قليلاً، ثم قال: “أرجو ألا يثير ما سأقوله لك الضحك!”، أجبته: “هل ستروي لي نكتة؟”، قال: “ربما تحسبها كذلك!”، فوعدته ألا أضحك، فقال: “أريد أن أرشح نفسي لرئاسة الجمهورية اللبنانية”.

في الحقيقة حبست ضحكتي، ليس لأن أبا جورج يريد أن يرشح نفسه، بل لأنني لم أتوقع أن تكون لي علاقة بالأمر. وحين سألته عما أستطيع أن أقدمه له في هذا الشأن، قال: “خدمة صغيرة” وسكت، وعيناه تشعّان أملاً في أن أستجيب له، وظل ساكتاً حتى أسأله: “وما هي هذه الخدمة؟”.

في نفس الوقت، كنت أنتظر منه أن يشرح لي الخدمة التي يطلبها مني دون أن أسأله، لذلك مرّت فترة من الصمت، أنا أنتظر فحوى الخدمة التي يريدها مني، وهو ينتظر مني أن أسأله، ثم قال:

  • “خبر صغير في إحدى الصحف السورية تقول بأن فلاناً مرشح لرئاسة الجمهورية اللبنانية، وبالصياغة التي تقررها أنت، المهم أن ينشر الخبر في صحيفة سورية، والمعروف أن جميع الصحف السورية رسمية”.

قلت له: “هذه ليست خدمة بسيطة، هذا أمر مستحيل، لأن وزير الإعلام نفسه لا يستطيع تمرير اسم مرشح للرئاسة اللبنانية، إذا لم ترده التعليمات من أعلى سلطة في الدولة السورية، لأن ذلك يعني تبني السلطة العليا لهذا الاسم”.

قال: “هذا ما أريده بالضبط”. قلت له: “أستطيع أن أساعدك في لبنان، أما في سورية، فلا أحد يستطيع أن يفعل ذلك إلا الرئيس حافظ الأسد، فموضوع لبنان حساس جداً، ومحسوب بأصغر الوحدات القياسية”، فرحب بالفكرة.

بالطبع، كانت هناك تعليقات عدة، منها ما أخذ طابع المزاح، ومنها ما كان جاداً، خاصة حين سأل نفسه نيابة عني: “ما هي مبررات ترشيحه؟” وأجاب:

  • “بيت فرنجية يريدون العماد إميل لحود، وهم أصدقاء النظام السوري، والرئيس إلياس الهراوي صديق للنظام أيضاً، وهكذا، سيكون السوريون محرجين أمام الاثنين، وهذا ما سيضطرُّهم البحث عن شخصية ثالثة، تكون مارونية، وطنية، نظيفة اليد، حسنة السمعة، متوافقة مع سياسة وحدة المسارين ومعاهدة الأخوة والتعاون، ولها إيمان بفكرة الشعب الواحد في البلدين، وهذا ما يتوفر لدي، عندما أعلن عن رغبتي في تولي هذه المسؤولية، لذلك، أعتبر أن لدي نسبة 30% كاحتمال لأن أكون رئيساً”.

قلت له: “أنا موافق على كل ما ذكرتَه، إلا كلمة واحدة”. سألني: “ما هي؟” قلت: “قضية الإحراج هذه، فالسوريون يا عزيزي لا يُحرَجون، ويعرفون ما يريدون، ولا يخجلون من التصريح به”. ثم ودّغته، وعدت إلى مكتبي.

اتصلت بصديقين من الإعلاميين اللبنانيين، وأعطيتهما الاسم والعنوان، واعتبرت أنني قمت بواجبي تجاه صديق طلب مساعدة ما مني، وحين عدت إلى بيتي، انفجرت بالضحك كما أشاء. سألتني زوجتي فرويت لها ما حدث: “تصوري أنني سأساهم في اختيار رئيس الجمهورية اللبنانية”.

في اليوم التالي، رن جرس الهاتف من جديد بعد الظهر، ليكون على الطرف الآخر أبو جورج، يشكرني ويعلن عن امتنانه الشديد لي، لأنه استقبل الوفود الصحفية، الواحد تلو الآخر، وأمضى طيلة الوقت يعطي تصريحات للصحف المختلفة. واستأذنني، إن سمح لي وقتي، أن أستقبله في نفس المكان والزمان، اليوم أيضا، فرحبت به.

حضر أبو جورج يوم الخميس، وشربنا القهوة وهو يشكر لي ما فعلتُه لأجله، والعدد الهائل من الصحفيين اللبنانيين الذي زاروه في ذلك اليوم، وكان سعيداً جداً، لأنه استطاع، ولو عن طريق الإعلام اللبناني أن يبلغ السوريين رغبته، فلا يتعذبون في البحث عن البديل. ليس هذا فقط، فقد قرر صديقي “الشيخ” أيضاً أن يمول “حملته الانتخابية”، ما دمتُ وضعتُ “ثقلي” في الأمر، لثقته الشديدة بي.

لكن الأمر لم يتم، فقد ألقى الرئيس حافظ الأسد خطاباً، بعد يومين ـ السبت ـ فُهِم منه أن سوريا تؤيد التجديد للرئيس إلياس الهراوي، ثلاث سنوات، وهكذا تبخرت الأحلام، لكن أبا جورج بقي يشكر لي ما فعلته من أجله.

لم يُمهل الزمن أبا جورج الأعوام الثلاثة التي مددها المجلس النيابي اللبناني للرئيس إلياس الهراوي، فأغمض عينيه للمرة الأخيرة، ورحل حاملاً أحلامه العريضة معه إلى العالم الآخر، وبعد أشهر أيضاً لحق به صديقي “الشيخ”، وانهارت المؤسسة التجارية التي قامت على أكتاف الرجلين.

رحم الله الصديقين الراحلين، فقد كانا مثالاً للوطنية الصادقة، وإن اختلفت الآراء، لكن الاتفاق كان مطلقاً على أن قوة لبنان في قوته ومقاومته، وانتمائه للوطن، سواء الكبير أم الأكبر، فالنتيجة واحدة، والقصد واحد.

16 كانون الثاني 2008                         دريد نوايا

Comments are disabled