ذكريات الوحدة.. المد الذي لم يدُم..

ماذا يمكن لمن أصبح في نهاية العقد السادس من العمر أن يروي؟ لقد شهد جيلنا، باعتقادي، ما لم يشهده جيل آخر من الأحداث المتضادة، من فرحة الوحدة العربية إلى الهزيمة، مروراً بانفصال وما سبقه وتلاه من أحداث، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه.

حين أُعلنت الوحدة بين مصر وسورية، في الثاني والعشرين من شباط (فبراير) 1958 كنت في التاسعة من العمر، مع ذلك، أستطيع أن أروي الكثير عن تلك الأيام، وما كنت أسمعه من الكبار، مما بقي في الذاكرة.

لم أكن قادراً على استيعاب اصطلاح “إسرائيل”، وحين كنت أستمع إلى الكبار يقولون: “أصبحت إسرائيل بين فكَّي كمّاشة”، أفتح الأطلس وأنا أبحث في الخريطة عن “إسرائيل” هذه فلا أجدها. لقد كان الأمر محيِّراً بسبب طبيعتي، فأنا أبحث عن الأجوبة بنفسي، ولا أسأل أحداً، هكذا ربيتُ نفسي.

حين اكتشفت أن “إسرائل” هذه جزء من فلسطين حزنت كثيراً، ولا أزال حزيناً حتى الآن.. عندئذ أدركت حجم الظلم الذي حل بالفلسطينيين، وأن “بائع السحلب” الفلسطيني لم يكن ضيفاً موقتاً سيعود إلى فلسطين بعد مدة، وأنه سيقيم في البيت الذي يستأجره مع أسرته الكبيرة إلى أجل غير معروف.

خمسون عاماً مرت الآن على إعلان الوحدة بين مصر وسورية، ففي مثل هذا اليوم البارد، كنا، نحن الصغار وقتئذ، نرتدي الشورت الأسود والكنزة القطنية البيضاء ذات الكم القصير، وننتظر منذ الصباح الباكر بدء العرض، احتفالاً بالوحدة، وعلى مدى السنوات الثلاث التالية. في ذلك اليوم حدث ما لم يتكرر: فقد تنازل الرئيس شكري القوتلي، رئيس الجمهورية السورية، للرئيس المصري جمال عبد الناصر عن موقع رئاسة البلدين، بعد أن أُجري استفتاء على الوحدة ورئاسة جمال عبد الناصر للدولة الوحدوية الوليدة.

كانت ورقة الاستفتاء الصغيرة تتضمن صورة للرئيس جمال عبد الناصر، وتحتها سؤال يقول: “هل توافق على انتخاب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة”، وتحت السؤال دائرتان: واحدة حمراء كُتِب فوقها “موافق”، وأخرى سوداء كُتب فوقها “غير موافق”. يومها شهدنا، ربما للمرة الأولى، نسبة الموافقة التي تَزيد عن 99%، بل كنا نتساءل: لماذا لم تكن النسبة 100%؟ على الرغم من بلوغها في بعض المناطق من “الإقليمين: الشمالي والجنوبي”هل هناك من يرفض الوحدة بين بلدين عربيين؟

كان جمال عبد الناصر يحظى بحب العرب على امتداد الوطن الكبير، بصرف النظر عن وجهة نظر حكامهم، وكان تأثيره على الجماهير يفوق التصور، ألم يقل الشاعر: (من المحيط الهادرِ… إلى الخليجِ الثائرِ… لبّيكَ عبد الناصرِ..).

كم كنا نفرح حين نرى البضائع المصرية تُعرَض في أسواقنا! وكم كنا محظوظين حين كان المعلم المصري في المدرسة يدرِّس صفَّنا! وكم كنا نحب اللهجة المصرية، والأغاني المصرية، والآفلام المصرية، والفنانين والكتّاب والأدباء المصريين! وكل شيء يحمل الدمغة المصرية! وكم كانت أحلامنا تكبر ونحن ندعو الله أن نتمكن من زيارة مصر!

وكعادته، كان النظام الرسمي العربي بالمرصاد، رديفاً لإرادة العدو، وكثيراً ما كان طابوراً خامساً له، تكالبوا في الداخل والخارج على الوحدة، حتى غدت اليوم “تهمة” يتجنب الجميع مقاربتها، فحُذفت من شعارات الدول العربية التي كانت ترفعها، وأُلغيت من قواميس “الأحزاب الوحدوية”، وأهدافها، ومنطلقاتها. ليس هذا فقط، بل أمعن النظام الرسمي العربي الآثم في المزيد من التفتيت، وتجرأ على طرح الفدرلة، والتقسيم، ووضع المراقبين الدوليين على الحدود المرفوضة شعبياً، وتسليم الأوطان للغزاة، وإثارة النعرات الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية والإقليمية والمناطقية، وإنكار النصر المحقَّق على العدو، في الوقت الذي يعترف فيه العدو بهزيمته، واستعداء الصديق، واستجداء العدو والهرولة إليه.

لقد أدركنا الزمن الذي يطلب فيه قزم مارق من العدو ألا ينسحب من الأراضي التي احتلها في ما بعد، ويطلب قزم آخر من الغزاة أن يرسلوا السيارات المفخخة إلى عاصمة عربية، ويجول قزم ثالث في دول أجنبية طلباً لـ”معاقبة” دولة عربية، وتكثر الأقزام في زمن العَملَقة، والتكتلات الكبرى، والتكنولوجيا الشديدة التطور، والفضائيات العابرة للكون.

الذكرى الغالية تطل، والواقع يصرُخ، والأمل يكبر…

22 شباط (فبراير) 2008                           دريد نوايا

Comments are disabled