تجربة النشرة – التحضير

اكتملت الصورة، وحصل عون على التراخيص اللازمة، وأقسم اليمين، واستأجر مكتباً، وكان حريصاً على إشراكي في كل ما يفعل، وكانت اللقاءات تتجدد باستمرار، وأصبح بيته مسرحاً للنقاش والحوار (كوني “غير متزوج بطريقة ما”)، حتى انتهى المكتب. كان المكتب واسعاً مفتوحاً (حوالى 400 متر مربع)، تم تقسيمه حسب متطلبات العمل، وحين انتهى كل شيء، رافقني في جولة داخله، وطلب منى اختيار غرفة كمكتب لي، فاخترت الغرفة الأجمل على إحدى الزاويتين، واختار هو الغرفة المناظرة لها، وانتقينا الفرش، وكان كل شيء يسير كما أريد، حتى شعرت وكأنني صاحب العمل. بالطبع، كان هناك زملاء آخرون، لكنني كنت الأول، وكان رأيي مسموعاً، وكل طلباتي مجابة، بالسرعة القصوى.

حضّرنا العدد الأول وانطلقنا، وبدأت الحركة في المكتب تزداد يوماً بعد يوم، وصدر العدد الأول، وكان وقعه ممتازاً على المستوى الذي طُرح، وكانت أعلب ردود الأفعال مشجعة، وبدأنا التحضير للعدد الثاني. وبالطبع، وكعادتي التي دأبت عليها طوال عمري، كنت أعطي كل اهتمامي للعمل، دون النظر إلى حجمه وتناسبه مع الدخل.

لم يخبرني عون بأن لديه شريكاً لا أعرفه، ربما لأنه (الشريك) كان مسافراً، وكان وضعي يترسخ ساعة بعد ساعة، وفرضت أسلوباً من التخاطب يحترم القارئ، مادام هذا القارئ نخبوياً، لا تصلح مخاطبته كما يُخاطَب العامة بالتوجيه المباشر، والحقيقة أنني كنت أمارس العمل بحرص شديد، محاولاً نقل المعلومة دون تدخل، حتى باختيار الكلمة الموحية بالموقف، وكان هذا مثار خلاف أحياناً مع بعض الزملاء.

كان الشريك المجهول بالنسبة لي الصحافي ميشيل النمري (رحمه الله وسامحه). حضر ميشيل، واستقبله عون، وحضرا إلى المكتب، وأخذ ميشيل يتنقل ويبدي آراءه حتى وصلا إلى مكتبي، فقدمه عون لي، وقدمني له. تصافحنا وتبادلنا كلمات المجاملة. كانت تلك أول مرة أعلم من خلالها أن ميشيل شريك. قال ميشيل فجأة: أريد هذه الغرفة. قالها بحزم، وفتح بذلك نوعاً من “التنافس” بيني وبينه، لكن عون أجاب بلباقة: مكتب الأستاذ دريد لن يكون لغيره. أجاب ميشيل بحزم أشد: لكنني رئيس التحرير، وهذه أفضل غرفة في المكتب.

في الحقيقة كنت قاسياً مع ميشيل، ولم أكن دبلوماسياً أبداً، ربما لأنني لم أتعود أن يكون لي “معلِّم” في العمل طوال عمري. قلت له: أمامك أكثر من خيار في هذا المكتب، أما غرفتي فلا يستطيع أحد انتزاعها مني، خاصة بطريقتك غير المهذبة.

كان وقع الكلام على ميشيل (رحمه الله وسامحه للمرة الألف) قاسياً، وحازماً بما يتجاوز لهجته الحازمة، فأراد عون أن يختصر الأمر فأخذه وخرجا معاً، لكنني بقيت معكر المزاج، حتى عاد عون بعد قليل، وأبلغني أن لا أحد يستطيع أن ينتزع مني أي شيء، مهما كان وضعه، وأبلغني بأن ميشيل اختار غرفة أخرى، بعد أن شرح له عون من أنا، وما أهميتي بالنسبة للمجلة.

أستطيع القول، وبعد مرور خمسة وعشرين عاماً على هذه الحادثة، إنه كان من المستحيل الاستغناء عني، لأن ذلك يعني توقف المجلة، بعد أن أصبح عدد الاشتراكات معقولاً، فقد كنت أتقن كل الأعمال الصحفية، وأراقب كل شيء، ولم يكن هناك من هو أهم مني إلا الأستاذ الكبير (مروان نجار) الذي لم يكن يعمل في “النشرة”، وإنما يأتي كزائر، وكنت أستمع إلى توجيهاته وتصويباته، لما يتمتع به من علم ومعرفة وسعة أفق، ودماثة في التعامل، ومازلت أحتفظ بالتصويبات التي أبداها، في اللغة العربية، حتى الآن، ولأنني عاشق للغة العربية، لم يكن من الضروري لتصويب أي أمر أن يعاد مرتين. (أوجه للأستاذ مروان نجار تحية كبيرة، وأدعو له بالصحة وطول العمر).

في الحقيقة لم أتمكن من عقد أي صداقة مع ميشيل، وبقي للقاء الأول بيني وبينه، من ناحيتي على الأقل، أثره، مع أننا تعاملنا معاً بمنتهى الاحترام حتى توقفت النشرة، وبغضّ النظر عن التعامل المالي (سامحه الله مرة أخرى)، حزنت حزناً شديداً حين استمعت من الإذاعة لنبأ اغتياله في أثينا، بعد أن عدت إلى سورية.

انطلقت النشرة.. وانتظمت بالصدور…

Comments are disabled