تجربة “اللقاء”: النهاية

لا يمكن اعتبار تجربة “اللقاء” فاشلة كمشروع، فقد وجدَتْ لها شريحة واسعة من القراء، أكاد أجزم بأن جميع العرب الذين يعيشون في قبرص كانوا يقرؤونها، وكانت زاويتي في العمود الأخير الأكثر قرّاءً، دون أن يعرفوا أنني أنا من يكتبها، ولهذه الزاوية قصة طريفة، ألهمني إياها شخص “نصاب محترف”.

كنت أرسلت شخصاً أوكلته جمع ديون لي في سورية، وزوّدته بتفويض لزبائني الذين يصبحون أصدقاء خلال فترة بسيطة من الزمن، لسهولة التعامل، والثقة المتبادلة. كنت تعرفت بهذا الشخص لدى أسرة لبنانية صديقة، قدّموه لي على أنه مثال للشهامة والأمانة والرجولة، وحين شكا لي شح العمل في بيروت، استدعيته إلى نيقوسيا ودبرت له عملاً في الجريدة، واستضفته في بيتي، وكان يخدمني بجميع ما يتطلب البيت من أعمال، من التنظيف إلى الطبخ، إلى الجلي.. إلخ.. إذ لم أكن قد تزوجت بعد.

سافر الرجل إلى دمشق عدة أيام، وعاد ليبلغني أنه لم يستطع جمع أكثر من ألف دولار، فأعطيته منها خمسمئة كمصروف ومكافأة، لكنه أبلغني أمراً آخر. قال لي إنه يحمل خبراً سيئاً لي هو أنني مطلوب أمنياً، واسمي معمم على الحدود والموانئ والمطارات. عجبت للأمر، فأنا لا أنتمي لأي من الأحزاب أو التيارات، فقط لأنني لا أحب التصفيق للآخرين من ذوي الطموح، ولأنني لا أريد لأحد أن يفرض علي رأيه على أنه رأيي، وأرفض إلغائي.

استمعت للرجل وقررت الذهاب إلى سفارة بلدي، والتقيت هناك أحد الملحقين الأصدقاء، وأبلغته الأمر، وقلت له: ها أنذا في أرض سورية. عجب الملحق لما سمعه مني، وقال لي: مستحيل هذا الكلام، نحن نفخر بأمثالك، ولا نشك في ولائك للوطن، صحيح أنك تعبر عن رأيك بجرأة و(طول لسان)، لكنك لا تخطئ بحق بلدك. وأضاف: دعني أطلب إضبارتك الأمنية، وأرجو ألا يكون هناك خطأ ما.

بعد أيام قليلة زارني الملحق في بيتي، وقال: لا شيء مما ذكرت، بل على العكس من ذلك، أنت مثال للمواطن السوري، ولا وجود لاسم لك على أي من قنوات الدخول إلى سورية.

واكتشفت بعد ذلك، أن هذا الأمين المخلص جمع أكثر من أحد عشر ألف دولار، وأغراه المبلغ فسرقه، واخترع قصة “المطلوب” لكي لا أكشف أمره سريعاً، وحين علم بما علمت من السفارة اختفى، فاكتفيت بإبلاغ الأسرة الصديقة بما فعل الرجل ونسيت القصة.

كانت “اللقاء” تتراجع بسبب سوء إدارتها، وأصبح دفع الرواتب بالقطارة، ولم يعد ما يبرر البقاء في قبرص، فقررت العودة إلى الوطن.

قبل مغادرتي بيوم واحد، كنت وزوجتي في “اللونابارك”، فالتقيت القنصل السوري، ومن حديث لحديث أبلغته أنني عائد إلى سورية، فسألني بإصرار عن الصحافي الذي يكتب العمود الأخير، فقلت له: لا أعرف، لكنني أتوقع أن يتوقف عن كتابة العمود قريباً. وبنتيجة الإلحاح الشديد، وعدم تصديقه أنني لا أعرفه، بحتُ له بالسر، وأخبرته أنني أنا من يكتبة، فأقسم أنه كان يتوقع ذلك، وأنه يحتفظ بكل ما كُتب في هذه الزاوية، وسوف يُعيد قراءتها الليلة، ولكن هذه المرة وهو يعرف من كتبها.

في اليوم التالي، غادرنا إلى لارنكا، بعد أن تركنا كل ما اشتريناه في قبرص، ومنها إلى دمشق، أجمل مدينة على الكرة الأرضية..

Comments are disabled