أبو غزوان

شخصية طريفة، كان في الثانية والستين من عمره، تعرفت به عن طريق صديق لي يعمل محامياً. كان أبو غزوان من بقايا الإقطاع، وكانت أغنيته المفضلة التي يدندنها بينه وبين نفسه دائماً (هل تذكرين ضيعتي والمنحنى والرابية؟). أما معرفتنا به فكانت علاقة مستأجرين بمالك، إذ كان يؤجر بيته الكبير مكاتب لأربعة محامين، وكيميائي، والعبد الفقير كمهندس زراعي، وكان قد ترك لنفسه غرفة، كثيراً ما كنا نسهر فيها ونتناول طعام العشاء.

تزوّج أبو غزوان من أول زوجة، أنجبت له أربعة أولاد وتوفيت خلال ولادتها للخامس، فتزوج من الثانية التي أنجبت له أيضاً أربعة أولاد وتوفيت خلال ولادتها للخامس، فتزوّج من الثالثة، التي أنجبت له أربعة أولاد أيضاً، لكنها رفضت أن تحمل بالطفل الخامس، وكانت لا تزال تعيش معه.

كان أبو غزوان كثير الشجار مع زوجته الثالثة، وكانت لنا إشارة، نعرف من خلالها أنه (زعلان) من زوجته، فقد كان يحتفظ بصورة كبيرة مؤطّرة للزوجة الثانية، المتوفاة كما ذكرنا، يخبّئها في المقعد الطويل (الصوفاية)، وكلما اختلف مع زوجته الحالية، يُخرج صورة الزوجة الثانية المتوفاة، ويعلقها على الجدار، وما إن يتصالح مع زوجته، يعيد الصورة بسلام إلى مخبئها. ومن كثرة ذكرها، كنا نشعر بأن المرحومةُ كانت الزوجةَ الأثيرة إلى قلبه، وبالتالي، كان أولادها الأحب إلى قلبه، خاصة الصبي الكبير منها.

أصبح الولد الأثير إلى القلب في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية، فتقدم لامتحان الشهادة الثانوية، وسط دعوات أبيه (أبو غزوان)، وتمنياته له بالنجاح المشرّف، ومن ثم دخول الجامعة.

في يوم إعلان نتائج الثانوية العامة، كان أبو غزوان قلقاً، يدعو للصبي أن يكون بين الناجحين، وكنت أطمئنه، وأعلن عن تمنياتي الطيبة لابنه بالنجاح، وهكذا حتى المساء.

كانت النتائج تُعلن من المدرسة أولاً (منذ ثلاثين عاماً)، ثم عن طريق الصحف المحلية، لذلك، خرج أبو غزوان ليستطلع الأمر من البيت، وبينما هو في بداية الطريق، التقى أحد زملاء ابنه، الذي سلّم عليه بمنتهى الاحترام والهدوء، وأبلغه بأن ابنه رسب، وأسف لأنه هو مَن أخبره بما لم يرغب به.

لم يغب أبو غزوان سوى بضع دقائق، ليعود إلى المكتب، فبادرته السؤال عن نتيجة ابنه، وفهمت الوضع قبل أن يخبرني برسوبه، فرُحت أخفف عنه وأواسيه، لكنني وجدت في يده (بطحة) عرق، أخبرني بأنه سيشربها (على حزن).

راعيت شعوره وحزنه، وواسيته بأن الشاب مازال صغيراً، ومازال العمر أمامه، حتى فرغ من شرب بطحة العرق كاملة، ونهض.

  • – إلى أين يا أبا غزوان؟
  • – أريد أن أذهب إلى البيت لأواسي الولد، لا بد أنه (زعلان) الآن.

خرج أبو غزوان للمرة الثانية، وما هي إلا دقائق قليلة حتى عاد ثانية، وبيده بطحة عرق أخرى. سألته ماذا حدث؟ أجابني بفرح شديد:

  • – لقد نجح الولد، قرأتُ اسمه في الجريدة، وسأشرب هذه البطحة (على بسط) لأمحو أثر البطحة السابقة.

شرب أبو غزوان البطحة الثانية وهو يغني (هل تذكرين ضيعتي…). ثم خرج مترنّحاً متجهاً نحو البيت، لكنه لم يغب سوى دقائق، ليعود وبيده بطحة ثالثة. عجبت للأمر وسألته: ماذا في الأمر يا أبا غزوان؟ فأجابني باسى:

  • – صادفني أخي (عم الولد) وأبلغني بأن ابني راسب، وبأن الاسم الذي نشرته الجريدة، هو ابن قريب بعيد لنا، وأن هناك تشابهاً في الأسماء، فاشتريت هذه البطحة لأشربها (على زعل).

على الرغم من أن الموقف مأساوي، خاصة وأنا أنظر إلى وجه (أبو غزوان) الذي يتفطّر حزناً، لم أتمالك نفسي، فضحكت وأنا أقول له:

  • – عذراً أبا غزوان، لقد انتهى دوامي، ولن أكون هنا عندما ستعود والبطحة الرابعة بيدك، حين تتأكد من أن الولد نجح، وأرجو له ذلك.

Comments are disabled