مطرب الصدفة

كما ذكرت، كنا حاضرين دائماً في اللاتيرنا، فقد احتلت مكانة الهافانا، بعد أن أصبحت الأخيرة محلاً لبيع الثياب، قبل أن يتم استرجاعها كمكان له تاريخه في اجتذاب المثقفين والكتّاب والسياسيين والفنانين من النخب. لذلك أصبحت اللاتيرنا عنواننا الدائم، كل مَن يقصدنا يجدنا هناك.
ذات يوم توقفت سيارة مرسيدس على باب اللاتيرنا، ترجّل منها شاب، واستدار ليفتح الباب اليميني الأمامي، لتترجل منها فتاة جميلة، ثم دخل الاثنان اللاتيرنا، وتوقفا عند البارمان في الداخل، للسؤال عن شخص ما، فأشار البارمان إلى طاولتنا، فتقدم الاثنان نحونا، ثم توقفا، وسأل الشاب:
– حضرتك الأستاذ حسين حمزة؟
أجاب حسين:
– نعم.. أنا..
فقدم الشاب نفسه (معذرة عن ذكر الاسم)، ودعا حسين الشاب والفتاة للجلوس فجلسا بجانبنا. قال الشاب لحسين:
– سألت عن أفضل شاعر أغنية فدلّوني عليك.
رحب حسين به وسأله عما يريد فأجاب:
– أريد كلمات ثماني أغان من أفضل ما كتبت.
سأله حسين:
– هل أنت مطرب؟
أجاب الشاب:
– أريد أن أصبح مطرباً، وقررت البدء بشريط خاص مباشرة.
قال حسين:
– سعر الأغنية ألف ليرة سورية..
(كانت تسعيرتها في الإذاعة السورية ثمانين ليرة فقط).
أخرج الشاب رزمة من الأوراق المالية، وعدّ منها ثمانية آلاف، نقدها حسين، ورجاه أن يعطيه إياها الآن. فذهب حسين إلى البيت، وكان قريباً، بينما انتظره الشاب والفتاة حوالى نصف الساعة، وعاد بثمانية نصوص، أعطاها للشاب، وكتبا عقداً، مع الاحتفاظ بحق الأداء العلني للشاعر.
سأل الشاب حسين:
– بمن تنصحني من الملحنين؟
أجابه: إبراهيم جودت، وأعطاه عنوانه. وما إن خرج الشاب والفتاة، تلفن حسين لإبراهيم، الذي طلب منه ثلاثة آلاف ليرة عن كل أغنية، فنقَدَه مبلغ أربعة وعشرين ألف ليرة عداً ونقداً كما علمنا.
سجل الشاب الأغاني الثماني على كاسيت، وقدّم للإذاعة السورية نسخة مجانية كهدية، لكن الإذاعة اعتذرت عن قبول الشريط، ثم اختفت أخبار الشاب. غاب أربعة أشهر متوالية، وعاد فجأة، ولم ينسَ أن يحضر إلى اللاتيرنا ليقدِّم الشكر لحسين حمزة على الكلمات الجميلة التي أعطاه إياها، فسأله حسين:
– ولكن، أين كنت طوال هذه المدة؟
أجاب:
– في لندن.. كنت أغني هناك في النوادي الليلية، وكان الأثرياء العرب أكرم المواظبين عليها. كنت أتقاضى 350 جنيهاً استرلينياً كل ليلة، في الوقت الذي كان فهد بلان يتقاضى 500 جنيه. هذا عدا عن “النقوط”.
بعد أكثر من خمسة عشر عاماً التقيته صدفة في مكان ما، أبلغني بأنه اعتزل الغناء بعد أن جمع مبلغاً كبيراً من المال، وعدّد لي المشاريع الاقتصادية التي أسّسها، والتي تدر عليه الأرباح المجزية.
تذكرت القصص التي يروونها عن فنانين أعلام، ماتوا جوعاً وقهراً وحرماناً، لا يملكون ثمن الدواء، ألم يكن الأحرى بهم أن يقدموا فنهم في لندن؟ حيث يمارس العربي الأصيل كرَمه، ويتذوق الفن، وغير الفن، بالمال الحرام!!!

Comments are disabled