هشام وتحرير فلسطين

كما ذكرت في أكثر من حديث، كانت اللاتيرنا بيتنا الحقيقي، أما البيت بالمفهوم المعروف، فلم يكن أكثر من “فندق” للنوم، واستقبال بعض الأصدقاء في بعض الأحيان. وكما ذكرت أيضاً، كان حسين حمزة الشخصية الأبرز في مجموعتنا، كونه الأكثر شهرةً، والأكثر علاقات، والأكثر فعالية في الوسط الثقافي والفني والإعلامي، وكنا جميعاً نقرُّ له بهذا الموقع بيننا.
لقد نشأنا، نجن جيل ما بعد النكبة، وقد رضعنا قضية فلسطين، وأصبحت جزءاً لا يتجزّأ من تربيتنا، فقد وعينا الحياة على إرث من سبقنا، وخلَّف لنا كابوساً بقي يجثم على صدورنا، حتى هزيمة المحتل اليهودي من جنوب لبنان عام 2000، وأذكر يومها أنني قلت لزوجتي: “هذا أول انتصار حقيقي يشهده جيلنا المهزوم”، وما هي إلا دقائق، حتى كان المرحوم نبيل الخوري يقول نفس الكلام من إذاعة الشرق. كانت فلسطين تسكن أعماقنا ووعينا ولا وعينا، ومازالت، ولكن بطريقة أخرى اليوم، تختلف عنها زمنَ الهزائم.
في أحد أيام الجمعة، كنا نجلس إلى إحدى الطاولات على البِركة التي كانت في القسم الخارجي من اللاتيرنا، قبل تحويلها إلى ما هي عليه الآن. وكانت مجموعة أخرى من الشباب تجلس إلى طاولة أخرى تبعد عنا بمقدار الحيِّز الذي تشغله البركة، يتناولون الغداء ويشربون.
أظن أن اللاتيرنا يومها كانت فارغة إلا من هاتين الطاولتين، إذ كان الوقت عصراً، وقت قيلولة، إلا للبعض، ونحن من هذا البعض بسبب طبيعة حياتنا تلك الأيام.
بين اللحظة والأخرى، كان يعلو صوت أحد الأصدقاء على الطاولة الأخرى، وكأن خلافاً يدور بينهم، لكننا لم نهتم بالأمر، حتى علا صوت أحدهم وهو يشتم أصدقاءه ويلومهم، ويبدو أن الشراب أخذ منه مأخذه.
نهض الشاب وهو يرفع صوته قائلاً:
– لقد تخلّيتم عنها جميعاً، وتركتم الأمر كله علي، يلعن أبوكم..
قالها وغادر الطاولة بعصبية، ملتفاً حول البركة الكبيرة، مارّاً بجانبنا، فناداه حسين قائلاً:
– هشام.. تعال قليلاً، ما القصة؟
وقف هشام وأجاب:
– لقد تخلّى هؤلاء “العرصات” كلهم عنها، وتركوها لي..
سأل حسين:
– من هي؟
أجاب هشام:
– فلسطين…. سأذهب الآن وأحرّرها بنفسي..
حاول حسين تهدئة الشاب، ودعاه للجلوس معنا على زجاجة بيرة، لكن “هشام” رفض رفضاً قاطعاً، وهمَّ بمتابعة طريقه نحو فلسطين، فقال حسين:
– اجلس الآن، وأعدك أن أذهب معك لتحرير فلسطين بعد أن تقبل ضيافتي..
لكن “هشام” أصر على حسين أن ينهض الآن إذا كان يريد فعلاً مرافقته لتحرير فلسطين، وفي النهاية قال حسين:
– أنسيت يا هشام أن اليوم “جمعة”؟ يوم عطلة، أعدك أن نذهب أنا وأنت والشباب غداً السبت معك لتحريرها، عندما “يفتحون”.
عندئذ هدأ هشام قائلاً:
– هذا صحيح.. لنؤجل الأمر للغد..
في اليوم التالي، كان هشام قد صحا من سكرته، أو كما قال جبران، عاد إلى خمرته!! حين روينا له ما حدث البارحة، اكتفى بالصمت البليغ، فأحسسنا بمرارة غصّته، وساد الصمت لدقائق، انسحب بعدها هشام إلى طاولة أصدقائه الذين كان يشتمهم بالأمس.
ما أصعب لحظات الصحو في عالم غارق في الأوهام التي تبدو حقيقة قائمة!!

Comments are disabled