يمكن للعسل أن يعالج مرضى الداء السكري، ولكن..

الدكتور محمد ديب منعم

 الداء السكري مرض منتشر في كل بلاد العالم، وهو من أمراض العصر الكثيرة الحدوث. لهذا الداء شكلان: الداء السكري الشبابي والسبب فيه تخرب جزر لانغرهانس في غدة البنكرياس (المعثكلة)، وبالتالي ضعف شديد أو انعدام إفراز الإنسولين (الهرمون الضروري لاستقلاب السكر في الجسم)، وهذا الشكل لا يستجيب إلا للعلاج بالإنسولين، وتحدد كميته حسب حالة كل مريض، ويحدث في سن الطفولة أو الشباب. أما الشكل الثاني له فهو الداء السكري الكهلي الذي يحدث في سن الكهولة، بعد الأربعين من العمر عادةً، وقد يحدث في سن أصغر، ولا تزال آلية حدوثه موضع جدل. تضيف بعض المدارس الطبية شكلين آخرين إلى هذا التصنيف هما: السكري الكامن، والسكري الحملي، وهما يندرجان تحت الشكل السكري الكهلي في معظم الحالات. وستكون لهذه التصنيفات أهمية كبيرة في دراستنا هذه.

على الرغم من أن اختصاصي في الجراحة البولية، لكنني بدأت اهتمامي في دراسة تأثير العسل على المرضى السكريين منذ أن بدأت ممارسة الطب قبل أكثر من عشرين عاماً مضت، في العيادة وفي المشافي الخاصة والعامة. في نفس الوقت، مازلت أقوم بتربية النحل منذ ثلاثين عاماً، قبل دخولي كلية الطب ببضعة أعوام.

في البداية كانت النتائج متباينة، إذ يستفيد بعض المرضى، ولا يستفيد البعض الآخر، بينما يتضرر البعض منهم!! ومع مرور الأيام، والتعمق في التجربة، بدأت أرتب الأفكار والطرق والخطط في ما يتعلق باستعمال العسل وكيفيته لمرضى الداء السكري، وبذلك تكونت لدي فكرة عن أنواع العسل الصالحة لهؤلاء المرضى، وعن شروط تخزينه وحفظه وكيفية التعامل معه.

وعلى الرغم من أن البعض يعتبر هذه الأمور بسيطة وقليلة الأهمية، وبالتالي لا يعطيها ما تستحق من الأهمية العناية، فإنها تعتبر المفتاح الأساسي في استعمال العسل كغذاء وعلاج لمرضى الداء السكري، وإن الإخلال بهذه الأمور يؤدي في معظم الحالات إلى الإخفاق في المعالجة، وقد تكون النتائج معكوسة تماماً. وهذا شرح موجز لهذه الأمور الشديدة الأهمية:

أولاً: كيفية استعمال العسل لمرضى السكري: يعطى المريض من 5 إلى 10 غرامات قبل كل وجبة طعام بحوالى 20 – 30 دقيقة، ويفضل أن يجزأ المريض وجباته الغذائية إلى 4 – 5 وجبات يومية. ولا بد من اتباع الحمية السكرية المناسبة في كل أشكال المعالجة للداء السكري، بما في ذلك المعالجة بالعسل. وإذا أراد المريض تناول 5 – 10 غرامات من العسل خارج أوقات الوجبات فلا مانع من ذلك.

يجري المريض فحصاً لسكر الدم قبل بدء المعالجة بالعسل ويوقف كل المعالجات الأخرى، ثم يعاير سكر الدم لديه مرة كل يومين في الأيام العشرة الأولى، ثم كل أسبوع مرة. وحين يستقر الوضع لدى المريض يراقب سكر الدم لديه على فترات أبعد..

يفضل أن يجرى للمريض اختبار تحمل السكر قبل بدء المعالجة بالغسل وفي أثنائها. هذا الاختبار يعطي فكرة واضحة عن فعالية الاستجابة للعسل. يتم الاختبار في أثناء فترة المعالجة كما يلي: يجرى فحص سكر الدم على الريق، بعد ذلك يتناول حوالى 20 غراماً من العسل، ثم وجبة خفيفة من الطعام بعده، ثم يجري فحصاً آخر لسكر الدم بعد 2 – 3 ساعات.

ثانياً: أنواع العسل الصالحة لمرضى السكري: في الفترة الأولى لتجاربنا، حين لم تكن لدينا كميات كافية من العسل الذي نقوم بإنتاجه في مناحلنا، كنا نطلب من المريض شراء العسل من السوق، وكانت النتائج متباينة ومشوشة جداً. ومع تقدمنا في دراسة هذا الموضوع، وتوسيع مشروع النحل لدينا، تبين أن بعض أنواع العسل غير صالحة لمرضى السكري، في حين أن بعضها الآخر مثالي لهم، وهذا ما يتعلق بنوعية المراعي ومصادر الرحيق التي يجني منها النحل عسله، وموقع المنحل. هذه النقطة هامة جداً وسأعقب عليها في نهاية حديثي هذا.

ثالثاً: شروط تخزين العسل وتعبئته وحمايته من العوامل المحيطية وطريقة التعامل معه: العسل مادة غذائية تختلف عن غيرها من المواد الغذائية الأخرى. فهو مادة حية، إن جاز لنا التعبير، وللعوامل البيئية المحيطة أهمية شديدة في فعاليته. إذ أنه يحتوي على عدد كبير ومتنوع من الإنزيمات والمواد النادرة الأحرى، وهذا ما يعطي للعسل أهميته العلاجية وفوائده الطبية والصحية في اعتقادي. أما السكريات التي يحتوي عليها، فما هي إلا وعاء حامل لهذه الإنزيمات والمواد الهامة الأخرى، وحمايتها على درجة كبيرة من الأهمية، لذلك لا بد من أخذ بعض الأمور في الاعتبار:

  • يجب تعبئة العسل في أوانٍ محكمة الإغلاق لكي لا يتعرض للرطوبة التي تسبب تخريبه بتخميره ونمو الفطريات فيه. كما يفضل حماية هذه الأواني من ضوء الشمس المباشر ومن الضوء الشديد بشكل عام لكي لا تتخرب الخمائر فيه. وأفضل الأواني لحفظ العسل هو ما كان من الزجاج أو الفخار، وإذا كان الزجاج شفافاً عديم اللون يفضل وضعه في علبة من الكرتون لحمايته من النور. أما إذا وضع في صفائح من التنك فيجب أن تكون حتماً من النوع المطلي من الداخل (المزيبق) لأن العسل يتفاعل مع معظم المعادن.
  • يجب عدم تسخين العسل بأي طريقة، قبل التخزين أو بعده، إذ يلجأ بعض النحالين والشركات إلى تسخين العسل لغايتين:
  1. سهولة تعبئته في عبوات صغيرة، وخاصة لدى التعبئة آلياً، هنا أود الإشارة إلى أن العسل الطبيعي غير قابل للتعبئة الآلية بسبب قوامه الكثيف. فإذا سخِّن خفت لزوجته، لكن معظم إنزيماته ومواده الفعالة تكون قد تخربت، وبذلك يصبح غير صالح كغذاء أو دواء لمرضى السكري، وتتراجع قيمته الغذائية بالنسبة للأشخاص العاديين.
  2. يلجأ بعض النحالين والشركات التجارية لرفع درجة حرارة العسل إلى الدرجة 70 – 80 مئوية ولعدة ساعات ضمن حمام مائي، ويدعون هذه العملية “البسترة”، وهي تمنع تجمد (كرملة) العسل غند تعرضه مستقبلاً لدرجات حرارة منخفضة، لأن هناك ظناً شائعاً بين العامة من الناس، وهو ظن خاطئ، بأن العسل الذي يتجمد يكون مغشوشاً. هذه الطريقة أيضاً تخرب معظم المواد الفعالية والمميزة للعسل، فيصبح غير مناسب لمرضى السكري. هنا أريد أن أوضح ملاحظة هامة، وهي أن العسل الطبيعي يتجمد في الدرجات المنخفضة من الحرارة، وبشكل خاص بين الدرجتين المئويتين 7 – 20، ولفترة قد تطول أو تقصر حسب نوع العسل، والمرعى الذي جمع النحل منه رحيقه، ويختلف شكل تجمده من حبيبات ناعمة ملساء إلى حبيبات خشنة كبيرة. إن هذا التجمد حالة طبيعية بالنسبة للعسل الطبيعي، فالعسل، كما أسلفت، غذاء حي، وعملية التجمد هي رد فعله تجاه العوامل المحيطية، لكي يتمكن من المحافظة على مكوناته الفعالة، وعلى المستهلك، إن أراد أن يستفيد من العسل بشكل كامل أن يستعمله كما هو، دون أي تسخين، وخاصة في حالة مرضى السكري.

هذا الإيضاح أساسي، وفي صميم بحثنا، ولم نعرفه بصورة عفوية، بل توصلنا إليه بعد عناء عشرين سنة من التعامل مع منتجات النحل والمرضى. وإن ما شرحناه يتعلق حصراً بالعسل الطبيعي، ونعني بكلمة “طبيعي” العسل الذي جمعه النحل من الأزهار والنباتات الطبيعية، دون تقديم أي غذاء سكري للنحل، سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كأن يكون المنحل قريباً من مصدر سكري متاح للنحل، لأنه لو أخذ من هذه السكاكر أصبح العسل غير طبيعي، وغير صالح لمرضى السكري.

من هنا أود أن أشير إلى موضوع هام وحيوي، وهو أن بعض النحالين يقومون بتغذية نحلهم على المحاليل السكرية، بحجة أن النحل يحول السكاكر الثنائية، بنسبة لا بأس بها، إلى سكاكر أحادية، ناسين بأن فوائد العسل تتحقق بإنزيماته والمواد الأخرى النادرة التي يحتوي عليها، وليست بسكرياته، مع العلم بأن ما نعلمه عن هذه الإنزيمات والمواد الأخرى المفيدة لا يزال قليلاً، ولم يتوصل العلم، حتى الآن، إلى اكتشاف كل مكونات العسل مخبرياً. من هنا تتضح أهمية العسل الجبلي وقيمته، مقارنة بغيره من أنواع العسل الأخرى. فهو من مصادر رحيقية متنوعة بشدة، وبعيدة عن الأماكن السكنية، ولا يمكن أن يتغذى من مصادر سكرية قد تكون قريبة من المناحل، وسوف أوضح هذه النقطة تتضح أهمية العسل الجبلي وقيمته، مقارنة بغيره من أنواع العسل الأخرى. فهو من مصادر رحيقية متنوعة بشدة، وبعيدة عن الأماكن السكنية، ولا يمكن أن يتغذى من مصادر سكرية قد تكون قريبة من المناحل، وسوف أوضح هذه النقطة بإسهاب لاحقاً، نظراً لأهميتها.

دراسات ميدانية في استعمال العسل كغذاء وعلاج لمرضى الداء السكري

كما ذكرت، بدأنا استعمال العسل في علاج مرضى السكري منذ حوالى عشرين عاماً، بحذر شديد، وتحت مراقبة صارمة، لكن النتائج كانت متباينة بشدة. فبينما أصبنا نجاحاً منقطع النظير مع بعض المرضى، واجهنا إخفاقاً ذريعاً مع البعض الآخر. وأمام هذه النتائج كانت لنا وقفة علمية طويلة، فقمنا بفرز النتائج، للوقوف على أسبابها، في حالتي النجاح والإخفاق، وتقصينا الأمور من جميع جوانبها، فتوصلنا من خلال هذه الدراسات المتتابعة إلى تفسيرات مقبولة ومشجعة، وإن كانت غير نهائية.

هذه بعض الحوادث المتفرقة الهامة التي حصلت معنا خلال تجاربنا نذكرها بشيء من الإسهاب، ثم نعود إلى بحثنا بشكل عام:

في عام 1984، وبينما كنت أعمل في مشفاي الخاص، أرسل لي أحد زملائي الأطباء مريض في وضع صحي محرج، ورجاني قبوله ومعالجته بالتعاون مع الجراح الذي أجرى له أكثر من عملية. كانت لهذا المريض مكانة اجتماعية مرموقة، فهو محامٍ قديم ومشهور، وكان مريضاً سكرياً منذ فترة طويلة، ولديه اضطراب شديد في نظم القلب، وقد وضع له منظم لضربات القلب يعمل بالبطارية، كما أجريت له، في الشهر السابق لقبوله لدينا، عمليتان على الصدر، كانت الأولى تفجير خراجات في الصدر والجنب، والثانية تقشير للجنب. وكان لديه تقيح صدري بالعصيات الزرق (وهي جراثيم معندة بشدة على المعالجة، وإذا انتشرت في مشفى، يُغلق حتى يتم تعقيمه منها)، كما كان لديه أنبوبان لغسل وتفجير الصدر. تم قبول المريض لدينا وتعهد أحد أطباء جراحة القلب المفتوح بمتابعته، وكانت قناعة الجميع، بمن فيهم زوجته، وهي ممرضة قديمة، أن حالته ميؤوس منها، وما تبقى له من العمر لن يتجاوز الأيام القليلة.

عولج المريض معالجة تقليدية لمدة أسبوع بالصادات والمصول فازدادت حالته سوءاً. حينئذ اقترحت على زوجته معالجته بالعسل، غذاءً عن طريق الفم، وغسولاً عن طريق المفجرات الصدرية، فوافقت رغم معارضة جراح القلب، إذ لم يعد هناك ما هو أسوأ من حالته. في هذا الوقت كان عيار سكر الدم لدى المريض على الريق يتراوح بين 280 و320 ملغ/ 100 مل، وكانت جرعته من الإنسولين 1.5 مل مرتين يومياً. لم يكن لدينا عسل في ذلك الوقت، فأحضرت زوجته عسلاً من السوق، على أنه عسل موثوق، ولكن، بمجرد استعماله ارتفع عيار سكر الدم لدى المريض حتى 450 ملغ/ 100 مل، وساءت أوضاعه بشدة، فأوقفنا استخدام هذا العسل مباشرة. بعد يومين زرت منحلنا، وأحضرت منه بعض العسل، وطلبت من الممرض المسؤول إعطاء هذا العسل بانتظام، وبمقادير محددة، كما تم تطبيق غسولات له عن طريق المفجرات، وطلبت معايرة السكر له ثلاث مرات يومياً، وكنت النتائج مفاجئة ومدهشة، فقد هبط سكر الدم عنده خلال ثلاثة أيام إلى 180 ملغ/ 100 مل، وخلال أسبوع تم خفض جرعة الإنسولين المعطاة له حتى 0.5 مل يومياً.

تابعنا العلاج على نفس المنوال، فاستقر وضع المريض وتحسن بشكل سريع، وخلال أسبوعين من المعالجة بهذا العسل شفي المريض شفاءً تاماً، وسحبت المفجرات الصدرية، وعاد خلال فترة وجيزة إلى عمله، والآن ونحن في عام 1999 لا يزال المريض بوضع جيد، يمارس عمله كمحامٍ، ويقود سيارته بنفسه.

بعد هذه الحادثة، كان الانطباع لدينا أن العسل الذي استخدم في المرة الأولى كان مغشوشاً، لكن تبين في ما بعد عكس ذلك، فهو من النوع الجيد، إلا أنه كان قد تعرض لعملية تسخين وبسترة لكي لا يتجمد، وهذا ما جعله غير صالح لمريض السكري.

بعد ذلك بدأنا نستعمل العسل في علاج مرضى السكر بشجاعة أكبر، خاصة مرضى العمل الجراحي من ذوي السن المتقدمة، ومرضى تضخم البروستات، وكلهم من المسنين، وقد درجت على إعطاء هؤلاء المرضى محلول العسل بعد العمل الجراحي بأربع ساعات، طبعاً عن طريق الفم، وكنت أعطيهم بشكل عام ملعقة كبيرة من العسل في كأس ماء فاتر كبير (200 مل)، وبمعدل كأس كل ساعتين. لقد أثبتت هذه الطريقة فاعليتها الكبيرة، فالعسل مقوٍّ ومرمِّم ومضاد للنزف وسريع الامتصاص من الأنبوب الهضمي، إذ يعبر بسرعة إلى الدم، ويتم استقلابه بشكل سريع، وبهذا يزيل حالات الخذل المعوي التي تحدث بعد العمل الجراحي. فمريض البروستات، رغم كبر سنه، لم يكن يمكث في المشفى أكثر من أربعة أيام.

بعد تقدمنا في استعمال العسل أصبحنا نعالج المرضى السكريين بالعسل أيضاً بعد العمل الجراحي، لكن كنا نعطيهم عسلاً يصلح للسكريين، والجرعة ملعقة صغيرة (5 – 7) غرامات في كل كأس كبير من الماء.

قصة أخرى حدثت بعد فترة، إذ جاءنا مريض مسن، لديه تضخم في البروستات، وارتفاع في التوتر الشرياني، وكان مريضاً سكرياً لم يستجب للمعالجة السكرية عن طريق الفم في نفس الوقت، وكان أدنى عيار سكر الدم لديه هو 250 ملغ/ 100 مل. كان المريض بحاجة لإجراء استئصال للبروستات، إذ أن لديه أسراً بولياً تحت التام. قررنا إجراء عمل جراحي للمريض تحت إشراف طبيب اختصاصي بالأمراض الداخلية في أثناء العمل الجراحي، لكن بعد هذا العمل الجراحي كان الأمر محرجاً، إذ لا يمكن إعطاء المريض المصول الملحية بسبب ارتفاع التوتر الشرياني، ولا يمكن إعطاؤه المصول السكرية دون مراقبة شديدة لكونه مريضاً سكرياً من النوع غير المستجيب للعلاج بشكل جيد. وهكذا قمت بمعالجة المريض بالعسل بإعطائه 10 غرامات من العسل محلولة في كأس كبيرة من الماء (200 مل) كل ساعتين، وذلك بعد العمل الجراحي بأربع ساعات، رغم المعارضة الشديدة لطبيب الداخلية، وأوقفت العلاج الخاص بالسكري الذي كان يطبق على المريض. كانت المفاجأة مدهشة في اليوم التالي للعمل الجراحي، فقد أجرينا له اختباراً لسكر الدم على الريق، وكان 160 ملغ/ 100مل، واستقر الضغط الشرياني عنده على الرقم 14/8. وفي اليوم الرابع بعد العمل الجراحي تمت معايرة سكر الدم للمريض، وكانت 110 ملغ/ 100 مل، وتم تخريج المريض في نفس اليوم من المشفى، وما زال يستعمل العسل كعلاج للسكري، ووضعه ممتاز جداً.

الحادثة الثالثة التي تسترعي الانتباه حصلت مع أحد أصدقائي وعمره 38 سنة، وقد ظهر لديه الداء السكري منذ سنة ونصف حين التقيت به صدفة في أثناء رحلة استجمام في بادية الشام، فذكر لي قصة مرضه بالداء السكري، وبأن عيار سكر الدم لديه يتراوح ما بين 180 و190 ملغ/ 100مل. طلبت منه مراجعتي في عيادتي حين تسمح له الظروف، فراجعني بعد فترة من الزمن، فأجريت له اختباراً لعيار سكر الدم على الريق فكان 195 ملغ/ 100 مل، كما أجريت له اختبار تحمل السكر، فكان بعد ساعتين ونصف من الطعام 275 ملغ/ 100 مل. أعطيته عسلاً صالحاً لمرضى السكري، وطلبت منه اتباع التعليمات بدقة، وإبلاغي عن وضعه، فهو مقيم في منطقة تبعد 300 كلم عن بلدتي. وهكذا اتصل بي بعد عدة أشهر ليبلغني أن سكر الدم لديه لم يعد يتجاوز 95 ملغ/ 100 مل، فطلبت منه متابعة العلاج بالعسل. بعد شهور زارني في العيادة، وأخبرني بأنه أوقف استعمال العسل منذ فترة وجيزة، ولم يعد سكر الدم يرتفع لديه، لكنني لم أقتنع فأخذته بيدي إلى المخبر، وأجريت له فحصاً لسكر الدم، فكان 90 ملغ/ 100 مل، وأجريت له اختباراً آخر لسكر الدم بعد الطعام بساعتين فكان 105 ملغ/ 100 مل. هنا لم أتمكن من الوصول إلى تفسير مقنع لهذه الحادثة!!

لا أريد سرد قصص أخرى لمرضى السكري المعالَجين لدينا بالعسل، فقد تجاوز عددهم المئتي مريض، تمت مراقبة مئة وعشرين منهم على الأقل، والاطلاع على نتائج معالجتهم بشكل مقبول، أما الباقي فلم يلتزموا بمراجعتنا بشكل دقيق، ونلتقي صدفة بأحدهم ونسأله عن وضعه، ويجيبنا بأن الأمور جيدة..

أود الآن أن أقدم خلاصة تجاربنا في مجال استعمال العسل للمرضى السكريين، وانطباعاتنا حول التأثير المختلف لأنواع العسل، ومنها نستنتج سبب التباين في النتائج في بعض الأحيان. فما نزال نجد من فترة لأخرى بعض المرضى الذين لا يستجيبون للمعالجة بالعسل، مع أن عددهم قليل.

معظم الحالات التي قمنا بمعالجتها من الداء السكري، والتجارب السريرية والميدانية التي أجريناها، كانت على مرضى من فئة السكري الكهلي، وذلك لعدة أسباب، فلم تكن لدينا الجرأة الكافية لاستعمال العسل لحالات السكر الشبابي بشكل واسع، بسبب الدقة الشديدة لوضع هؤلاء المرضى، واعتمادهم في علاجهم على الإنسولين، ولأن استجابة مرضى السكر الشبابي الذين استعملت العسل في علاجهم كانت قليلة، ولم تحصل استجابة مُرضية في حوالى 60 – 70 بالمئة من الحالات، وحتى الذين استجابوا منهم كانت أعمارهم تتراوح بين 27 و35 سنة، وهم مصنفون، حسب بعض المدارس الطبية مع السكري الكهلي. ومن الأسباب أيضاً أن معظم المراجعين كان من الكهول والمسنين، لهذا كانت معظم دراساتنا على مرضى السكري الكهلي.

لقد أصبح معظم المرضى الذين عولجوا بالعسل من الداء السكري الكهلي يعتمدون كلياً على هذا العلاج، ومن بينهم والدي المريض بالسكري منذ ثماني سنوات، ولم يستخدم حتى الآن أي علاج دوائي، وإنما يكتفي بالحمية والعسل.

تتلخص الحمية السكرية حسب برنامجنا بالامتناع الكامل عن تناول السكر الأبيض (السكروز)، بأي شكل من أشكاله أو الأطعمة الحاوية، وتخفيف الأطعمة الحاوية على السكريات الأخرى عموماً إلى الحد الأدنى الممكن كالفواكه، وتخفيف معتدل للنشويات، والابتعاد، ما أمكن، عن تناول الشحوم والدسم، والاعتماد أكثر على الخضار الطازجة واللحوم البيضاء (دجاج، سمك) الخالية من الدهون والدسم.

لقد كانت نتائج المرضى الذين التزموا ببرنامجنا ومراجعتنا ممتازة، وإن كنا نجد أحياناً، وبشكل طارئ وموقت، عدم استجابة للعلاج، فيرتفع عيار سكر الدم لديهم لفترة وجيزة، ثم تتحسن أمورهم.

هناك أسباب عديدة لارتفاع سكر الدم، وهذا ما يحصل لدى المرضى الذين يتناولون الأدوية. من هذه الأسباب على سبيل المثال لا الحصر الإنتانات في أي موضع من الجسم، وحالات التوتر النفسي التي ترفع عيار سكر الدم لدى مرضى السكري مهما كان نوع العلاج، وكذلك عدم التزام المريض بالحمية السكرية وهو أمر هام جداً وأساسي.

وعلى الرغم من العمل لمدة عشرين عاماً، والخبرة في فصل وعزل العسل الصالح لمرضى السكري أقول إنه لا يمكن أبداً عزل كامل العسل كما نريد، فهذا الأمر خارج إرادتنا، والنحلة ليست آلة مبرمجة، أو حيواناً نعلفه كما نشاء، ونختار له طعامه كما نريد لمردوده أن يكون، فالمراعي متنوعة دوماً، والنحلة تأكل من كل الثمرات كما أراد لها خالقها. وحين نصف عسلاً ما على أنه مجموع من رحيق نبات ما، تكون نسبة ما جمع من هذا النبات لا تتعدى 45 – 50%، وهي نسبة ممتازة ولا يمكن تجاوزها، خاصة في العسل الجبلي، العسل الصالح لمرضى السكري. وسأتناول باختصار أنواع العسل وسبب عدم القدرة على الفصل الدقيق لهذه الأنواع، قبل نهاية هذا المقال.

من الأسباب التي تؤدي إلى التباين في نتائج علاج مرضى السكري بالعسل في بعض الأحيان عدم فهمنا لآلية تأثير العسل على هؤلاء المرضى، وآلية خفضه لسكر الدم لديهم، رغم أنه يتكوّن بشكل رئيسي من السكريات. لقد حاولت دراسة الموضوع من شتى الجوانب، فلم أتوصل إلى معرفة الآلية المؤثرة، لكنني كونت فكرة، ووضعت احتمالات تحوم حول الواقع. لقد عدت إلى المراجع التي تشير إلى ذلك فلم أجد ضالتي، ففي بعض الكتيبات أشار أحد البحاثة الروس وأحد البحاثة الفرنسيين إلى ذلك، وعلّلا تأثير العسل على مرضى السكري بأن السكريات الأحادية في العسل تحث البنكرياس على إفراز الإنسولين حينما تعطى بكميات قليلة، مما يساهم في خفض سكر الدم. لكننا وجدنا من خلال دراستنا وتجاربنا أن هذا التفسير غير صحيح بشكل قاطع، فقد اخترنا مريضاً له استجابة ممتازة للعلاج بالعسل، وعند أخذ نفس العسل وتعريضه لدرجة حرارة بحدود 70 مئوية، ثم العودة لاستخدامه كعلاج لنفس المريض، حصل أمر معاكس تماماً، إذ ارتفع سكر الدم لديه بدرجة كبيرة. ولدى تكرارنا التجربة على أكثر من مريض آخر حصلنا على نفس النتيجة، وهي ارتفاع سكر الدم. ولو أجرينا تحليلاً مخبرياً للعسل الذي تعرض للحرارة لوجدنا أن كمية السكريات ونسبها كما هي قبل تعريضه للحرارة. وهذا ما يدل على أنه ليس للسكر الأحادي (سواء في حالة الغلوكوز أم الفركتوز) أي دور في خفض سكر الدم لدى مرضى السكري.

أما رأينا في هذا الموضوع، فهناك أكثر من احتمال، وإن كنا نرجح احتمالاً على آخر:

  1. قد تكون هناك إنزيمات (خمائر) تزيد من فعالية البنكرياس، وبالتالي من كفاءته في إنتاج الإنسولين، فيستفيد مريض السكري من ذلك، وهذا ما يفسر استفادة مرضى السكري الكهلي بشكل خاص، حيث تكون جزر لانغرهانس المنتجة للإنسولين بحالة جيدة.
  2. أن يكون تأثير هذه الخمائر زيادة فعالية المستقبلات المحيطية في الأنسجة، ويؤثر الإنسولين عن طريقها، وبالتالي تزداد نسبة استجابتها لكمية الإنسولين نفسها عند مريض السكري، فينخفض عيار سكر الدم.
  3. أن يحتوي العسل على مكونات غير معروفة حتى الآن عدا الإنزيمات، كأن تكون هناك هرمونات نباتية يجنيها النحل مع الرحيق من بعض النباتات، وتكون كميتها قليلة جداً، ولا يمكن معايرتها لأمرين: جهلنا بها، وقلة كميتها.
  4. أن تكون العوامل الثلاثة السابقة الذكر مجتمعة تؤثر معاً وتؤدي إلى خفض سكر الدم.

أنا شخصياً أرجح الافتراض الثالث، وهو وجود مكونات غير معروفة في العسل. فمن خلال عملنا ودراستنا لاحظنا أن أنواعاً من العسل بعينها تؤثر أكثر من غيرها، وخاصة أنواع من العسل الجبلي. ونتيجة لدراسة النباتات التي يجمع النحل منها الرحيق، تبين لنا أن هناك نباتات معينة قد تكون مصدر التأثير على المريض السكري. لقد قمنا بمراقبة ودراسة تشكيلة واسعة جداً من النباتات الطبيعية المتنوعة، ومنها الأشواك البرية، في جبال جرد القلمون، وهي تزهر في أوقات محددة، وذلك من حيث فترة الإزهار، وتم توقيت جني العسل منها. ونتيجة لذلك استطعنا التوصل إلى أصناف من العسل لها تأثير نوعي أكثر من غيرها على الداء السكري، إضافة إلى أصناف أخرى لها تأثيرات طبية أخرى.

مع ذلك لا أدعي أن دراستنا اكتملت، والعكس هو الصحيح. فأنا أربي النحل منذ حوالى ثلاثين عاماً، منها عشرون عاماً أمارس فيها الطب وتربية النحل معاً، وفي كل عام، بل في كل يوم، أضيف جديداً ذا أهمية بالغة، سواء في تربية النحل وسلوكه، أم في أصناف العسل وتأثيرها الطبي. ولا أستطيع أن أعتقد بأن أحداً يستطيع القول بالوصول إلى نهاية المراد من دراسة كهذه، فما زالت أمامنا أشواط طويلة جداً، ومهما بلغنا يبقى أمامنا الكثير.

ملاحظات هامة حول أنواع العسل

سأشرح هنا أموراً مهمة تتعلق بأنواع العسل، وهذا ما يخدم بحثنا ودراستنا بشكل مباشر وغير مباشر، سواء بالنسبة لعلاقتها بالداء السكري أم بالبحوث الأخرى التي تمت دراستها، وتتعلق بالعسل وتأثيره الطبي.

عندما نقول إن هذا العسل هو عسل نبات ما (مثلاً عسل شيح الكوكلان أو غيره)، فإن هذه الصفة قليلة الدقة، وتقل هذه الدقة أكثر حينما نشير إلى عسل على أنه من رحيق نبات بري، وتزداد في حالة النباتات المدجنة او المزروعة، فمثلاً يمكن أن تصل الدقة في عسل اليانسون (من رحيق أزهار اليانسون) حتى 80 – 90%، وهذه نسبة عالية جداً، لأن فترة إزهار اليانسون محدودة بحوالى 20 – 25 يوماً، ومناطق زراعته محدودة أيضاً. إضافة إلى أنه نادراً ما يزامنه نبات آخر في إزهاره، فترى مساحات شاسعة من هذا النبات، ومن الطبيعي أن يكون العسل المنتج من رحيقه أكثر دقة. أما حينما نقول أن هذا عسل قطن، أو عباد شمس، فإن الدقة تكون أقل، وتنخفض إلى 50 – 60%، لأننا نجد نباتات أخرى مزهرة متزامنة معه كالنباتات القرعية، والنباتات الطبيعية الأخرى التي تنبت تلقائياً، وتزهر في نفس الوقت، فتقل الدقة. أما حين نتجه بأنظارنا إلى النباتات الجبلية والبرية، حيث لا يد للإنسان في كمية وأنواع هذه النباتات، وتضم في نفس الوقت تشكيلة واسعة من الأعشاب والشوكيات، تزهر وتفرز الرحيق، فإن دقة التحديد لهوية العسل نسبة إلى نبات ما تكون قليلة، وفي أحسن حالاتها أقل من 45%، كما في شيح البلان، الذي يتوفر خلال فترة معينة بكميات هائلة تغطي الجرد بأكمله. ولكن في حالة أنواع أخرى من الشيح والشوك لا تصل الدقة إلى 10 – 20%، يشذ عن ذلك نوع واحد من العسل الجبلي الجردي هو نوع اللزاب (شجر يشبه العرعر)، الذي يفرز الرحيق مرة كل عدة سنوات في أواخر الصيف بفترة تقل فيها النباتات الأخرى المزهرة، ويكون عادة غزير الإفراز، فتصل النسبة من رحيق نبات اللزاب إلى 70 – 80%.

هناك صعوبات أخرى في عزل الأعسال الجبلية طبقاً لنبات ما. فبعض النباتات لا تفرز رحيقاً إلا تحت ظروف بيئية معينة، وأحياناً تفقد إفرازها حتى نهاية الموسم إذا تعرضت لظروف قاسية، أو أنها تمتنع عن الإفراز لظروف نجهلها. فخلال عشرين عاماً من تربية النحل في جرد القلمون، على سبيل المثال، لم يفرز نبات شيح البلان أكثر من سبع مرات متفرقات، لأنه كان يتعرض لانخفاض شديد في درجة الحرارة خلال فترة إزهاره، ويستمر عدم إفرازه طيلة فترة إزهاره، حتى في الأزهار التي لم تكن قد تفتحت حين تعرض النبات للظرف القاسي.

  • تزداد نقاوة العسل وخلوه من السكاكر الثنائية، وخاصة السكروز، ويكون بالتالي أكثر فائدةً، كلما ابتعد المنحل عن المناطق المأهولة، لأن فترة الفيض الرحيقي تحين في الفترة التي يقوم الناس خلالها بتصنيع المربيات. فالنحل قد يسطو على هذه المربيات حين يكون قريباً من المنازل، ويأخذ منها السكريات (السكروز)، مما يؤدي إلى تلويث العسل بها. ولهذا السبب، نجد أن عسل جرد جبال القلمون ذو ميزات كبيرة، لأن مواقع المناحل تبعد بما لا يقل عن 15 كلم عن أقرب بيت سكني، وبالتالي لا يمكن للنحل أن يصل إلى مثل هذه المربيات، وبالتالي يكون العسل في أنقى حالاته، إضافة إلى أنه رحيقي صرف.

كلما ابتعدنا عن الساحل، وعن المناطق الرطبة، حتى ولو كانت جبلية، كان العسل أفضل، لأن الرطوبة المرتفعة تقلل من كثافة العسل، مما يؤدي، في حالة العسل الساحلي إلى فساده بعد فترة، بسبب زيادة رطوبته، فضلاً عن أن معظم أنواع نباتات الجبال الداخلية، كجبال جرد القلمون، من النباتات الطبية، وتتميز عن نباتات الجبال الساحلية.

  • لماذا يتميز عسل الجبال، وخاصة الجردية منها في بلادنا، بفاعليتها الممتازة بالنسبة لمرضى السكري، ومرضى عدد من الأمراض الأخرى؟؟

نرجح أن تكون هناك أسباب متعددة. فنجد تنوعاً شديداً غي أنواع نباتات جرد الجبل، من أعشاب وأشواك وأشجار تزهر وتفرز رحيقاً في أوقات مختلفة، ويستعمل أهالي المنطقة جزءاً كبيراً من هذه النباتات في معالجة العديد من الأمراض، ومن بينها الداء السكري. هذا التنوع الشديد يجعل كمية الإنزيمات والعناصر النادرة الفعالة فيها كثيرة وكبيرة، وهذا ما يرفع من قيمة العسل، ولا أبالغ لو قلت إنك لو تذوقت عسل الفترة من 15 إلى 30 حزيران (يونيو)، والفترة من 1 إلى 15 تموز (يوليو)، لرأيت اختلافاً كبيراً في طعم كل منهما. وأكثر من ذلك، في نفس قرص العسل المأخوذ من الخلية نفسها نجد أحياناً أكثر من مذاق، وأحياناً في نفس الفترة الزمنية نجد هذا الاختلاف في المذاق، وفي الخلية نفسها.

على سبيل المثال، نحن نضع مناحلنا في خمس مناطق من جبال جرد القلمون، تبعد عن بعضها مسافات قصيرة، أقل من ستة كيلومترات، ومع ذلك نجد أن الطعم وكمية إنتاج تختلف من منطقة لأخرى، وهذا يدل على شدة التنوع في المصادر الرحيقية، وبالتالي غنى هذه الأعسال بإنزيماتها المختلفة، وعناصرها النادرة الفعالة، وتنوعها، مما يعطيها ميزات علاجية كبيرة تجعلها في مقدمة الأعسال العلاجية في العالم. لهذا يختلف العسل الجبلي عن غيره قيمةً وعلاجاً وغذاءً.

أخيراً، أود أن أقول إن هذا البحث لم ينته بعد، ونحن مستمرون في العمل والبحث، وفي كل يوم نتوصل إلى ما هو جديد، ونأمل أن تتبنى هذا الموضوع جهات رسمية، وهيئات علمية تتمتع بالإمكانيات اللازمة، ونأمل أن يكون تعاون مرضانا معنا أكثر، لكي تكون النتائج أكثر علمية، وأكثر وضوحاً.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر هذا الموضوع في مجلة مملكة النحل، مؤسسها ورئيس تحريرها المهندس دريد نوايا.

Comments are disabled