الوراثة و الإعاقة… أسباب وآمال

ما من شك أن الإعاقة حقيقة ، والمعاقون أو ذوو الاحتياجات الخاصة موجودون في كل المجتمعات وبدون استثناء ، وصحيح أن الاهتمام بالإعاقة في تزايد مستمر – والحمد لله – ، ولكن يبقى من حقنا الحلم بتقديم المزيد، إن النقطة الأهم في أبحاث الإعاقة تكمن في دراسة الأسباب المؤدية لحدوثها ، وطرق تلافي ذلك ، بحيث نبعد شبح الإعاقة قدر المستطاع ، ويتبع ذلك ضفائر أمل وردي يتمثل في آفاق المستقبل الوقائية والعلاجية..

تصنيف الإعاقات :

     تصنّف الإعاقات عموماً إلى ثلاثة أنواع : أولها الإعاقات الجسدية ، وثانيها الإعاقات العقلية ، وثالث الأنواع الإعاقات الحواسية التي تشتمل على ضعف أو فقدان للسمع و/أو النطق و/أو النظر ، ولا ننسى البعد الاجتماعي في كل منها وفق ما تؤكد عليه التصانيف الحديثة، إن الإعاقات قد تكون معزولة في عضو أو طرف أو جزء أو وظيفة ما في البدن ، وقد تكون مختلطة تشتمل على إعاقتين أو أكثر عند نفس الشخص ، وتدخل الأسباب المتعلقة بالوراثة ضمن العوامل المؤدية لأي من أنواع الإعاقات التي ذكرناها ، إن العامل السبـبي الوراثي قد يكون على شكل مرض وراثي أو خلقي أو على شكل مرض له علاقة بالوراثة بشكل ما ، بحيث يحدث خلل أو قصور في أحد أجهزة أو أعضاء الجسم ، كما أن الإصابات الوراثية وبسبب طبيعتها المزمنة تؤثر على الإنسان جسدياً ونفسياً ، ناهيك عن تأثيرات الإعاقة الناجمة عن الإصابة .

الإعاقة على أرض الواقع:

     إن النظرة التأملية لواقع الإعاقات تكشف لنا عن أن العوامل الوراثية أو التي لها علاقة بالوراثة تدخل ضمن أسباب الإعاقات كلها دون استثناء ، و سنذكر ذلك ببعض التفصيل:

1 – الإعاقة الجسدية :

     تشكل الإعاقات الجسدية ثلث حالات الإعاقة في العديد من الإحصائيات، ونذكر من أسبابها الوراثية على سبيل المثال لا الحصر العديد من الإصابات العصبية أو حالات التشوهات ، أو حتى الإصابات الدموية أو العضليـة مثل حثل دوشـــــن ( Duchene ) العضلي ، وحثل بيكر ( Becker ) ، أو الإستقلابية مثل داء بومب (Pompe ) ، وداء فون جيرك ( Von Gierke ) ، أو الحالات الأخرى مثل الضمور العضلي الشوكي ( Werdnig Hoffmann ) ، وعسر المقويــة الذاتية العائلي ( Riley Day ) والوهن العضلي الوخيم ، وغير ذلك كثير وكلها تؤدي لحصول إعاقة جسدية بشكل أو بآخر .

2 – الإعاقة العقلية :

     أما الإعاقات العقلية فقد بات من المؤكد أن الأمراض الوراثية وما دار بفلكها تتدخل في إحداثها بشكل صريح أو بشكل لا مباشر ، وكمثال على ذلك نذكر الأمراض العصبية الوراثية ، والكثـــير من حالات التخلف العقلي، وحالات صغر الرأس الوراثي العائلي ذي الوراثة المقهورة والذي يحدث بنسب لا يستهان بها ، وهناك حالات قاهرة أندر ، وهناك الإعاقات العقلية التي تتعلق بالمتلازمات الصبغية ، والحالات المؤدية للإختلاجات وما أكثرها ، والكثير من الأمراض الإستقلابية الوراثية وغير ذلك من العلل التي تطول قوائمها ، وللذكر نقول إن الإعاقات العقلية تشكل نسبة تقرب من العشر من مجتمع المعاقين وفق العديد من الدراسات .

3 – الإعاقة البصرية :

     ولو وجهنا البصر صوب الإعاقات البصرية ، لرأينا – وبلا شك – كيف أن الأسباب الوراثية تشكل سبباً لا يجوز إغفاله بحدوثها ، وكأمثلة على ذلك نذكر بعض الأمراض العصبية الوراثية ،وبعض الأمراض التي تؤثر على أجهزة أخرى في الجسم مثل الوهن العضلي الوخيم وداء ألبورت ( Alport ) وداء فابري ( Fabry ) ومرض لوي ( Lowe ) ، وإصابات عدسة العين الوراثية وبعض الإصابات الشبكية والزرق العيني الوراثي ، وكذلك بعض حالات سرطان الريتينوبلاستوما الذي يصيب العين ، إن الإعاقات البصرية تشكل ما يقرب من (30% ) من حالات الإعاقة .

4 – الإعاقة السمعية :

     أما بالنسبة للإعاقات السمعية والتي تشكل ما ينوف على عشر حالات الإعاقات ، فالأمر فيها مماثل ، حيث أن العلل الوراثية أو الأمراض المرتبطة بالوراثة تدخل ضمن أسبابها ، لقد تبين أن (50% ) من حالات نقص أو فقد السمع عند الأطفال هي مقررّة وراثياً ، ويمكن للإصابات أن تترافق بتشوهات أخرى ، أو أنها تكون جزءاً من متلازمة سريرية ، كما أن نقص السمع قد يحدث مع شذوذات في الأذن الخارجية والعين ومع اضطرابات استقلابية وعضلية هيكلية وكلوية وعصبية ، ومن الأمثلة الشائعة متلازمة بندرد ( Pendred ) وأوشــر ( Usher ) و وردنبرغ ( Waardenburg ) وألبورت ( Alport ) ، وهناك شذوذات صبغية عديدة يمكن أن تترافق بذلك.

     إن الطفل الذي يكون أحد أبويه مصاباً بالصمم العائلي هو على خطر لحدوث إصابة ، والوراثات التي تنتقل عبرها الإصابة مختلفة ، إن نقص السمع العائلي من النمط المقهور يشكل ( 70 – 80% ) من حالات نقص السمع الحسي العصبي الوراثي ، وهذا النمط يمكن الوقاية منه إلى حد كبـير.

5 – الإعاقة النطقية :

     إن الأسباب الوراثية موجودة أيضاً كعوامل مؤدية لحدوث الإعاقة النطقية، وحالات الإعاقة بالنطق تشكل مالا يقل عن (13% ) من حالات الإعاقة ، ومن الأمثلة نذكر العديد من الأمراض العصبية الوراثية التي قد تؤدي لصعوبات كلامية .

قضية الإعاقة و الحضارة :

     إن التعامل مع قضية الإعاقة يختلف حسب الزمان والمكان ، وبالتالي حسب المجتمعات ، وكلما ازداد اهتمام المجتمع بفئة المعاقين وأولاهم رعايته كلما كان ذلك المجتمع ذا مكانة عالية في سلم الرقي الحضاري ، أقول ذلك لأنه لا يكفي أن نتعامل مع الواقع الذي تمثّله الإعاقة الآن في مجتمعاتنا ، بل النظرة وما يتبعها من عمل يجب أن يكونا بشمولية مع استشراف لآفاق المستقبل بحيث نجعل الأجيال القادمة تنعم بنقص في نسب ومعدلات حالات الإعاقة ، وبنفس الوقت نرسخ الأسس والقواعد المتينة التي تخدم المعاق الآن وغداً ، وبحيث يعيش المعاق وذووه في جو تفاؤلي أكثر .

أمل مشروع :

     إن علوم الوراثة ستقدّم – إن شاء الله – الكثير في مجال خدمة المعاقين ، وقاية وعلاجاً ، لا بل إنها وعبر الدراسات العديدة والقوية قد قدّمت بالفعل إرشادات قابلة للتطبيق في سبيل تلافي الكثير من الإعاقات ، إن مشروع الخريطة الوراثية (الجينوم البشري) Human Genome Project يعد بالكثير، وربما تكون الخدمة الأكبر التي تنتظر التنفيذ هي الحد من حالات زواج الأقارب التي تحتمل الخطورة ، أو حتى من حالات الزواج بين أشخاص ليسوا بأقارب ولكنهم يحملون مورّثات متشابهة قد تؤدي لظهور المرض عند الأبناء ، سيما إذا علمنا أن الكثير من الأمراض الوراثية التي تؤدي لإعاقات تنتقل بأنماط وراثية تمكن الوقاية فيها.

     إن الأمراض الوراثية وأشباهها تشكل مصدراً خصباً لحالات الإعاقة ، والترابط وثيق بين الأمرين ، والجهود المبذولة في سبيل معرفة الأســرار الوراثية ، وفي سبيل تحقيق الوقاية من الأمراض الوراثية ، لابد وأن تصب في النهاية في خدمة قضية الإعاقة.

المراجع:

1- السح، عبدالمطلب بن أحمد، زواج الأقارب تحت المجهر، دار الاستشارات الطبية والتأهيلية، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى، 2004م.

2- السح، عبدالمطلب بن أحمد، سلسلة الأمراض الوراثية، مستشفى الحمادي، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثالثة، 2002م.

3- الطريقي، محمد بن حمود، المشروع الوطني لأبحاث الإعاقة و التاهيل و إعادة التأهيل داخل المجتمع في المملكة العربية السعودية، المركز المشترك لبحوث الأطراف الإصطناعية و الأجهزة التعويضية و برامج تأهيل المعوقين، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1417هـ،1997م.

  1. Behrman R. E., Nelson Textbook of Pediatrics, 16th edition, Philadelphia, WB Saunders, USA, 2000.
  2. Polnay L., hull D., Community Paediatrics, 2nd edition (reprinted), Edinburgh, Churchill Livingstone, UK, 1999.
  3. Lissauer T., Clayden G., Illustrated Textbook of Paediatrics, 1st edition (reprinted), Mosby, London, UK, 1999.
  4. Campbell A.G.M., McIntosh N., Forfar and Arneil’s Textbook of Pediatrics, 5th edition, Churchill Livingstone, New York, USA, 1998.
  5. Jones K. L., Smith’s Recognizable Patterns of Human Malformation, 5th edition, Philadelphia, WB Saunders, USA, 1997.
  6. Baraitser M., Winter R. M., Color Atlas of Congenital Malformation Syndromes, London, Mosby-Wolfe, UK, 1996.

10 – مراجع على شبكة المعلومات العالمية ( الإنترنت ):

http://www.google.com

د.عبد المطلب بن أحمد السح      

دكتوراه في طب الأطفال و زمالة بريطانية في طب الأطفال (لندن)

عضو الجمعية الوراثية الأمريكية (ماريلاند – الولايات المتحدة) والجمعية الأوربية للوراثة البشرية (برمنجهام- بريطانيا)

سورية – حماة ـ ص.ب 594

جوال 00963-944-413-815

Dr_alsah@hotmail.com

Comments are disabled