النحل .. وكسوف الشمس

مراقبة ميدانية قام بها النحالان

عارف حمزة، وحمود أبو فياض

لمدة ثلاثة أيام

في إيطاليا، ثمة وادٍ كان اسمه الوادي السعيد، على جانبيه سبع قرى وادعة، وفوقها سد يروي أراضيها، يعلو السد جبلٌ تترامى فوقه غابة..

في أوائل سبعينات القرن العشرين، لاحظ السكان رحيل حيوانات الغابة، حتى الزيزان رحلت في أرتال، أما الحيوانات الأليفة فبدا عليها القلق، وجف حليب الأبقار. وأما الإنسان، الذي قلّ إحساسه بالطبيعة لصالح عقله المتأرجح بين الخطأ والصواب، فلم يستطع أن يحس بالانزياح البطني لجانب كبير من الجبل باتجاه البحيرة. وأخيراً انزلق وارتطم بمياه بحيرة السد محدثاً دوياً هائلاً، فاندلق منها الماء دفعةً واحدة على القرى، فأغرقها، وصار اسم ذلك الوادي “وادي الموت”.

أما في جنوب سورية، فيروى أن بدوية عجوزاً شاهدت كلبة لهم تنقل جراءها من الأرض المنخفضة التي ينزلون بها إلى مرتفع قريب، فنصحت العجوز أهلها بالرحيل عن المنخفض، وما إن غادروه حتى دهمه سيل جارف.

قال الشاعر يهجو قبيلة تميم:

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا  وإن سلكت سبل المكارم ضلّت

تنزل القطا ليلاً على أعشاشها بشكل عمودي فلا تخطئها، لذا كان العرب يغرسون فيها رماحهم وأسنّتها إلى أعلى، فتنزل عليها القطا فتشكّها، وهكذا يصطادونها.

لا يتسع لنا المجال هنا لذكر عشرات الأمثلة عن هداية الأحياء البرية والبحرية بغرائزها، أو بأعضائها الحسية، إلى ظواهر الطبيعة، أو إلى المكان أو الأخطار التي يمكن أن تحيق بها.

يعد النحل من أكثر الكائنات هدايةً، لما تتميز به النحلة من أعضاء حسية غاية في الدقة أولاً، وما تتميز به من قدرات خاصة بلغت شأناً عظيماً من الدقة في التقدير والاهتداء والتذكر وغير ذلك ثانياً.

 الأعضاء الحسية الدقيقة

قرون الاستشعار: أعضاء حسية هامة، تستخدم للمس والقياس والشم.

العوينات: هي ثلاث عيون صغيرة في قمة رأس النحلة، تستخدم لرؤية الأشياء القريبة، أو في شبه الظلام.

العيون المركبة: ولكل نحلة عينان مركبتان على جانبي رأسها، تتيحان لها رؤية بانورامية للبعيد، مكبرة ستين مرة.

غدة الرائحة: تقع في نهاية بطن النحلة، وتفرز رائحة تمكن نحل الطائفة الواحدة من التعارف.

القدرات الدلالية الخاصة

الذاكرة المكانية وتحديد السمت:

وهي التي تمكن النحلة من الاهتداء إلى المراعي، كما تمكنها من الاهتداء إلى الخلية.

الربط بين اتجاه الشمس والمرعى المكتشف حديثاً بواسطة الرقصات الاهتزازية للإعلام عن المكان:

فمرة تتعلق الرقصات التي تؤديها النحلة على قرص الشمع باتجاه الشمس، ومرة بعكسه، ومرة بزاوية بينهما، وهي اتجاهات أماكن توفر الغذاء.

ولما كان النحل من الأحياء التي تستهدي بالشمس، فحري بنا أن نراقبه خلال فترة الكسوف الذي حدث في بلادنا يوم 11/8/1999.

البلاد السورية عريقة في رصد الكسوف، ففي رأس شمرا “أوغاريت” في اللاذقية، تم العثور على رقيم كتب عليه خبر أول كسوف مدون في التاريخ، وكان ذلك عام 1223 قبل الميلاد.

يقع المنحل الذي قمنا بمراقبته في الأيام 9، و10، و11 آب (أغسطس) 1999، في أشرفية صحنايا، على بعد ثمانية كيلومترات من دمشق. وكان عدد الخلايا 32، ثماني خلايا من النحل السوري، و24 خلية من النحل الهجين، وقد وضعت في حديقة ضيقة، بين منزلين.

 بدأنا المراقبة قبل يومين من الكسوف، أي منذ صباح الاثنين في 9/8/1999. بدا على النحل نشاط ملحوظ منذ الساعة السابعة صباحاً، وكان الجو صيفياً حاراً. انصبت المراقبة على عملية دخول وخروج النحل من أبواب الخلايا نحو المرعى، وحركة الحراسة على الأبواب، وطيران النحلات اللاعبات فوق الخلايا، وحركة النحل على المشارب المملوءة بالماء وعددها سبعة، وحركة الدبور الأحمر.

في هذا اليوم لم يكن ثمة شيء غير عادي. فالعاملات تجلب غبار الطلع بألوانه الأصفر والبرتقالي والبني، وحركة الدبور الأحمر أكثر قليلاً من الأيام السابقة، ونشاط النحل عموماً يتناسب مع قوة أو ضعف الطوائف.

تردُّد النحل على الماء عادي ومتناسب مع عدد الخلايا ودرجة الحرارة.

 الثلاثاء 10/8/1999:

الطقس صيفي معتدل، ارتفعت درجة الحرارة قليلاً عن يوم أمس، ويلاحظ ازدياد حركة النحل، وتوارد الدبور الأحمر. تزدحم الشغالات الحاملات لغبار الطلع على أبواب الخلايا، وخاصة تلك التي تحمل الغبار الأصفر الفاقع، تدخل الخلية وعلى رجليها قنديلان أصفران يلمعان، فيبعثان البهجة في نفس الرائي، ويعمقان فيها حب الحياة، والعزم على الاجتهاد، واحترام العمل والعاملين.

كانت مراقبتنا لحركة نحل الطوائف أكثر تركيزاً من يوم أمس، لقرب يوم الكسوف الكلي للشمس فوق عين ديوار، الواقعة شمالي سورية، والكسوف الأعظمي فوق دمشق، والذي بلغ 83%، ونحن نتوقع أن يتأثر النحل بالكسوف، وذلك عند وقوعه على الأقل، فهل النحل مستعد لذذلك؟ هل الكسوف ينذر بشيء بالنسبة للنحل؟ أم أنه ظاهرة طبيعية عابرة؟!..

نسأل أنفسنا: ألن يتأثر النحل بالكسوف؟ وهو الذي يمتلك الأعين الكثيرة، والرؤية المضاعفة، ويحس بالأشعة والساحة المغناطيسية، وغير ذلك!

وكنا بعد هذه التساولات، بل قل هذه التخوفات، نطمئن أنفسنا قائلين:

لقد عاش النحل على وجه الكرة الأرضية آلاف السنين، حدثت خلالها كسوفات وخسوفات وزلازل وصواعق وبراكين، وها هو ذا يعيش حياً يُرزَق ويَرزُق.

 الأربعاء 11/8/1999 وهو يوم الكسوف:

بدأنا المراقبة في تمام الساعة السادسة إلا خمس دقائق صباحاً. كان النحل على غير عادته، قد انتشر في جميع أنحاء المنزل: على الشرفة، وتحت معرش العنب، وحول الصناديق الفارغة، وحول مصائد الدبور.

¨       من الساعة 7,00 إلى الساعة 8,00 صباحاً: انتظمت حركة النحل، وبدأت درجة الحرارة بالارتفاع.

¨       9,00 – 11,00: كثافة في حركة الدبور الأحمر، وعلى أبواب الخلايا مزيد من الشغالات القادمة من المراعي تحمل حبوب الطلع، وتزدحم على المهابط، وكان ورود الماء عادياً، ونشاط الحارسات واللاعبات مرتفعاً.

¨       11,00 – 12,00: تناقصت كثافة الدبور وقل عدد النحل المحوِّم على الأبواب وفوق الخلايا. ولا وجود اليوم لظاهرة اللحية (وهي كتلة دفاعية من النحل ضد الدبور).

¨       12,00 – 13,00: تناقص عدد النحل الشارب والمصطف على حواف الأوعية المملوءة بالماء، بحيث يمننا عدّه.

¨       13,00 – 14,00:يبدأ الكسوف فوق مدينة دمشق، وتصل نسبته إلى 83% كما ذكرنا، وقد قصرنا المراقبة على تسع خلايا خلال دقائق الكسوف: ست منها ليس على مهابطها نحل، ومن حين إلى آخر تدخل نحلة إليها، أو تخرج نحلة منها. وثلاث خلايا منها على أبوابها حركة نحل دون الوسط، والنحل عموماً في حالة قيلولة واضحة.

¨       الساعة 14,00:خف سطوع الشمس، والنحل في أقل حالاته نشاطاً، وعدد النحلات على المشارب يتراوح بين 10 و15 نحلة فقط، نحسب أن انعكاس أشعة الشمس على أعينها من سطح الماء يضايقها فتغادره، وقد كانت الكثافة على المشارب أكثر في الأيام السابقة، علماً بأن الطقس حار.

¨       14,00 – 16,00: حركة النحل خفيفة للغاية، وقد شكلت الخلايا التي في الظل كتلاً دفاعية ضد الدبور، وبدأ يزداد النحل الوارد على الماء.

¨       16,00 – 18,00: دبت الحيوية في المنحل، وعاد إلى وضعه الطبيعي بعد ساعات القيلولة.

وهكذا، تبين بالمشاهدة العملية أن النحل لا يتأثر بالكسوف، أو بالأشعة تحت الحمراء، ولعله يستهدي بها في علاقاته وأعماله داخل الخلية مثل: صنع العيون السداسية البالغة الدقة، وتخزين العسل وختمه، وتفريغ غبار الطلع وكبسه، وصنع الغذاء الملكي، وطلاء الخلية وسد الشقوق بالعكبر (البروبوليس)، وتغذية اليرقات، وأعمال النظافة، وكلها تتم في الظلام، بالنسبة لنا

Comments are disabled