السيدة ذات الصوت الجميل

استيقظ “مهيار” صباح ذات يوم، نظر إلى الساعة التي كانت تشير إلى السابعة والنصف، أحس بأنه مكتَفٍ بالساعتين التين أمضاهما نائماً، فنهض متجهاً نحو الحمّام، الذي اعتاد أن يفتتح يومه به، “دشّاً” بارداً حتى في أيام الشتاء، وحلق ذقنه، ثم خرج لتحضير القهوة التي اعتاد على تناولها وحده، فزوجته لا تزال تغط في نوم عميق، وتلك عادته منذ أن تزوجا قبل خمسة وعشرين عاماً، بعد أن توفيت زوجته الأولى بحادث سير، تاركة له طفلة وطفلاً، في سنواتهما الأولى.

زرق نفسه بالجرعة الصباحية من الإنسولين، وأعدَّ لنفسه فطوراً يناسب مرضى السكري، كما نصحه الطبيب، ثم ارتدى ملابسه، وخرج قاصداً مكتبه.

حين وصل إلى المكتب، وجد سكرتيرته وقد سبقته وأعدَّت له برنامجه اليومي، ووضعته أمامه على الطاولة.. كان البرنامج يبدأ باتصال هاتفي مع أحد الزبائن، وقد آن وقته، فرفع سماعة الهاتف وهو يتثاءب، وطلب الرقم.

ردَّت على الهاتف سيدة لم يألف صوتها الجميل، فسألها بحذر:

  • – هل أستطيع التحدث إلى الأستاذ نادر؟

رد عليه الصوت الجميل:

  • – ليس لدينا أحد بهذا الاسم، يبدو أنك أخطأت الرقم المطلوب!

سحره صوت السيدة، ودون أن يشعر قال لها:

  • – يبدو لي ذلك، لكن.. هل تسمحين لي أن أعبِّر عن إعجابي الشديد بصوتك الجميل؟

ضحكت السيدة وأجابته بلطف شديد:

  • – لا بأس.. قل ما تشاء..

قال:

  • – اسمي مهيار، وأنا رجل كهل، زوَّجت ابني الكبير وابنتي الكبرى، وتستطيعين أن تناديني “جدّو” إذا أحببت، أسمعيني صوتك مرة أخرى..

أجابت:

  • – ماذا تريدني أن أقول وأنا لا أعرف شيئاً عنك، فرصة سعيدة على كل حال.

قال:

  • – هل تسمحين لي أن أتلفن لك كلما اشتقت إلى هذا الصوت الجميل؟

أجابت:

  • – لا بأس إذا كانت هذه رغبتك.

أعاد مهيار السماعة إلى مكانها، وأصداء الصوت الجميل تملأ سمعه وقلبه، وقد أذهله هذا التجاوب المباشر معه، فعاد إلى شاشة الهاتف ليتأكد فعلاً بأنه أخطأ في أحد الأرقام، فسجل رقم السيدة التي لم تفصح له عن اسمها، ولم يطلب منها ذلك أصلاً، وكتب بجانبه “صاحبة الصوت الساحر”.

تابع مهيار أعماله بشكل روتيني، واستقبل زبائنه، وقبض ودفع، ورد على الرسائل، ومضى ذلك اليوم كغيره من الأيام، لكن صوت السيدة لم يفارقه أبداً.

في اليوم التالي كانت رغبته شديدة في سماع صوت السيدة، لكنه كبح هذه الرغبة محدثاً نفسه:

–         عيب عليّ، وأنا جَدٌّ، أن أتصرّف بهذه الخفّة.. يجب أن أنسى الأمر..

*         *         *

مضى على ذلك اليوم أسبوعان، وأحس بشوق شديد لسماع ذلك الصوت الذي أسره، فطلب الرقم مرة أخرى. ردت السيدة، فبادرها القول:

–         أنا مهيار.. هل تذكرتني؟

أجابت بكياسة شديدة:

–         طبعاً.. طبعاً.. أنت من أحب صوتي..

قال:

–         وددت أن أستمع إليه مرة أخرى، هل أنت جميلة كصوتك؟

ضحكت السيدة قائلة:

–         هكذا يقولون، لكن لا تتصوّر أنني سيدة صغيرة، فأولادي في الجامعة يا عزيزي..

أراد أن يسألها: وزوجك؟ لكنه تركها تروي له ما تشاء دون أن يسألها، خوفاً من أن يتورط معها أكثر وأكثر، ودار بينهما حديث في الشأن العام، كونه لا يريد إلا الاستماع لصوتها.

وهكذا بقي يتصل بها ولا تبخل عليه بصوتها الجميل كلما أراد الاستماع إليه، لكنها لم تتحدث له كثيراً عن نفسها، إلا أنه وجد قاسماً مشتركاً بينه وبينها، وهو متابعتها للسياسة، خاصة أخبار لبنان، الذي لم يبق أحد لا يعرف كل شيء عن ساسته، وأمراء طوائفه، ونشرة أخباره الطويلة كل يوم، وكانا منسجمين في الآراء بهذا الخصوص، فهما مع المقاومة حتى النخاع، وضد عصابات القتل على الهوية، والعفو عن المجرمين، وضد كل من يصرِّح بما يؤذي علاقة اللبنانيين بالسوريين، وضد كل دعوة لتأكيد الفصل بين الدولتين اللتين خلقهما الغرب.

*         *         *

طالت الصداقة على الهاتف، ولم يطلب مهيار من السيدة مقابلتها، أو حتى التعرف على اسمها، وكان هذا من أسباب إعجابها به، واستمرار العلاقة الهاتفية طوال أشهر. لكن “مهيار” تجرّأ ذات يوم وسألها:

–         ما دمنا أصبحنا أصدقاء، ما رأيك أن نتعارف وجهاً لوجه؟

أجابت:

–         بكل سرور.

شعر مهيار بأنه أضاع فرصة طوال هذه المدة، ولام نفسه لأنه لم يطلب منها ذلك من قبل، مادامت لا تمانع، فسألها:

–         هل أستطيع أن أتشرف بزيارتك لي في مكتبي؟

فوافقت وتواعدا في صباح اليوم التالي ليتناولا قهوة الصباح معاً

*         *         *

في يوم الموعد لم يتمكن مهيار من النوم جيداً، كان مشغولاً بالزيارة المرتقبة، فأطلق العنان لخياله، وراح يرسم أشكالاً، ويتخيل سيناريوهات لهذا اللقاء. كان الوقت يمضي ببطء، وينظر إلى الساعة مرتين كل دقيقة. نهض وأعدَّ نفسه للموعد الحلم، وارتدى أحدث ثيابه، وعطّر ذقنه بعطره المفضل “أولد سبايس” الذي اعتاد استعماله منذ عشرات السنين. لكن، وعلى غير عادتها، استيقظت زوجته ونهضت، وأبلغته بأنها سترافقه اليوم، لأن لديها عملاً في السوق، فرضخ للأمر الواقع لاعناً حظه السيّئ، مستسلماً لقدره، تاركاً الأمور تسير كما تشاء، فرافقته زوجته، لكنها طلبت منه أن ينتظرها في المكتب، لأنها ستعود إليه بعد انتهائها من عملها في السوق، فتنفس الصعداء، ومضى نحو المكتب، قبل دقائق من الموعد.

ما هي إلا لحظات حتى كانت السكرتيرة تبلغه بقدوم السيدة، فأمر بإدخالها، وكانت المفاجأة: دخل مع السيدة رجل يقاربه بالعمر، قدّمته السيدة على أنه زوجها.

–         أهذا أنت؟

صرخ مهيار بدهشة شديدة، وعانق الرجل بحرارة، وصافح السيدة ذات الصوت الجميل، والجميع يضحك من شدة المفاجأة. فقد كان الرجل من أصدقائه الذين يلتقي بهم أسبوعياً في النادي، يلعبون النرد، فعلّق الرجل قائلاً بخبث:

–         تغازل زوجتي يا خائن؟

كانت المرأة ذات الصوت الجميل قد روت لزوجها منذ اليوم الأول ما جرى بينها وبين مهيار، فطلب إليها أن تسايره بعد أن عرفه، وتأكد من شخصيته من رقم الهاتف، وكان مقلباً ساخناً دام ستة أشهر.

بعد قليل حضرت الزوجة إلى المكتب، واكتمل النصاب، وفضح زوج السيدة “مهيار” لزوجته، وأصوات الضحك تتعالى، ومنذ ذلك اليوم أصبحت لقاءاتهم أُسَريّة، وأصبح مهيار يستمع إلى صوت صديقته متى يشاء، ولكن، دون أحلام..

قصة دريد نوايا

Comments are disabled