مشوار جينا عالدني.. مشوار

وصل الأستاذ “عمر” بيروت في مهمة عمل لمدة ستة أشهر، فاستقبله في المطار موفد للمؤسسة التي جاء لإنجاز عمل لصالحها، أوصله أولاً إلى مقر المؤسسة للسلام على مديرها. شقة واسعة تدل على ضخامة حجم عمل تلك المؤسسة، كانت المرة الأولى التي يعمل لصالح هذه المؤسسة.

بعد تناول القهوة، رافقه مدير المؤسسة ليريه مكتبه فيها خلال المدة المتفق عليها، ثم طلب من أحد الموظفين إيصال الأستاذ عمر إلى الشقة التي أُعدّت لإقامته، ليأخذ قسطاً من الراحة، على أن يتم اللقاء مساءً لتسليم المهام

في صباح اليوم التالي بدأ الأستاذ عمر العمل، بجدِّيّته المعهودة. وكعادته، لم يطلب مساعدة أو خدمة من أحد، بل لم يكن يأبه لكل من يعمل في المؤسسة، ولم يتحدث إلى أحد سوى الموظف الذي كان يطل عليه من حين إلى آخر ليسأله إن كان يريد شيئاً، وكان غالباً يشكر له عنايته به، ولم يخاطب العاملين الآخرين سوى بعبارتي “صباح الخير” و”يعطيكم العافية”، لدى دخوله المكتب ومغادرته. لكنه كان ينجز أعماله بأكثر من السرعة المطلوبة.

وجد الأستاذ عمر تلك المهمة في بيروت نوعاً من “تغيير الجو”، فعلاقته قديمة بهذه المدينة، منذ سنوات طويلة، لكن بيروت لم تكن كما كانت حين غادرها للمرة الأخيرة، قبل سنوات أيضاً. فقد خرج العدو منها قبل أيام، وكانت الحرب الأهلية لا تزال قائمة، لذلك كانت الأماكن التي يستطيع التجول فيها محدودة، وكان عليه أن يخبر المؤسسة عن المكان الذي يقصده، ليتولى أحد الموظفين مهمة إيصاله في الذهاب والعودة.

في نفس الوقت، يبتعد عن جو التعقيد الذي يحيط بعلاقته بصديقته في بلده، حتى أنه لم يخبرها عن مهمته، ولا متى سيعود، فقد سئم “دلع البنات”، ولعبة “شعرة معاوية” و”عض الأصابع” و”شد الحبل”، فتجاربه، وهو في الثالثة والثلاثين من العمر، وضعته في موقع يصعب فيه قبوله لأي “سخافة” لا تخضع لمزيج العقل والعاطفة معاً، هكذا كان يعتقد دون أن يجهد نفسه في تقييم أي أمر، لذلك كان يبدو للآخرين لا مبالياً إلى حد كبير، وكان صمته مثار فضولهم، وعدم تدخله في شؤون الآخرين يدل على خصوصية شخصيته.

سافر مدير المؤسسة لأيام قليلة خارج لبنان، هكذا قال، وفي وضع كهذا يشعر الموظفون بقدر أكبر من الحرية، ويتنفسون الصعداء. لكن سفر المدير لم يكن يعني شيئاً بالنسبة للأستاذ عمر، فتابع عمله بنفس الوتيرة.

كان ذلك الصباح مختلفاً عن باقي الصباحات، فقد وقفت بباب مكتبه في المؤسسة صبية جميلة، تفيض حيوية ونشاطاً وعذوبة، وسألته: أستاذ عمر.. هل تشرب القهوة معنا؟

لم يكن الرجل سيئ الطبع، خاصة مع الجنس الآخر، فأجابها مبتسماً: يشرفني ذلك.. لكنني أريد أن أتناولها في مكتبي إذا سمحت..

دقائق قليلة وعادت الصبية تحمل صينية بفنجانين، فأدرك أنها تريد أن تتناول القهوة معه، فالمدير غائب، والموظفون متحالفون في ما بينهم. وعلى الرغم من أنه كان يشاهدها يومياً حين يدخل المؤسسة، وكانت أول من يراه من العاملين الذين يزيد عددهم ربما عن عشرة، لكنه لم يؤكد في وجهها أبداً، إلا في تلك اللحظة، وكان معسول اللسان، إذ لم يكد يبدأ حديث المجاملة بينهما حتى نظر إليها بدهشة قائلاً: هل أخبرك أحد قبلي بأن عينيك جميلتان جداً..

أجابت مبتسمة، وكأنها احتلت الموقع الأول في الهجوم الأنثوي العاطفي غير المعلَن: الكل يقول ذلك.. إذا نظروا إليهما بالطبع..

تابع الأستاذ نظراته بدهشة، وعاد ليقول: أنت جميلة جداً، لكن أجمل ما فيك عيناك ويداك.

أجابته: بالنسبة ليديّ.. أنت أول من يلفتني إلى أنهما جميلتان.. لم يخبرني أحد بذلك من قبل..

كانت تلك الجلسة بداية لقصة لم يتهيّأ لها الأستاذ عمر، فقد أصبح موعد شرب القهوة تقليداً كل صباح، ودارت النميمة بين موظفي المؤسسة وموظفاتها، وطال غياب المدير، لكنه كان يتصل هاتفياً ليطمئن على سير العمل، ويعطي تعليماته، ويسأل عن الأستاذ عمر ويوصي موظفيه بالاعتناء به ومراعاة طلباته، على قلَّتها.

*         *         *

كانت “هيام” في العشرين من العمر، زهرة متفتحة للحياة، توفي والدها قبل عامين، واضطرت للبحث عن وظيفة لتلبية متطلباتها على الأقل، وهذا ما حرمها من متابعة دراستها الجامعية، ويبدو أن الأستاذ عمر لفت انتباهها برزانته وجدّيته، وبدا لها جاهزاً وقادراً على تحمل مسؤولية أسرة، فعادت ووقفت بباب مكتبه بعد ساعتين من بدء العمل ذلك النهار، فرحَّب بها وكأنه يعاتبها قائلاً: يبدو أن القمر شرب قهوته في البيت اليوم قبل أن يأتي إلى العمل!

فأجابته مقاطعة: بل جئت لأدعوك إلى القهوة، لكنني أريد أن أعرِّفك ببعض صديقاتي.. تفضل إلى الصالون..

عرَّفت هيام الأستاذ عمر بصديقتين لها: “فاطمة” و”غالية”، وعرَّفتهما به، وما إن جلس وأمسك بفنجان قهوته، حتى سألته غالية بشكل مباشر وجرأة غريبة، وبلهجة لبنانية محببة: (مجوَّز) أستاذ عمر؟

بدا الاستهجان على وجه هيام، ونظرت إلى غالية بدهشة، وكأنها تعاتبها على هذه الجرأة المفرطة والسريعة، بينما تجاهل الأستاذ عمر السؤال، وفتح حديثاً آخر، وبعد أن شرب قهوته اعتذر من الصديقتين ومن هيام، محتجّاً بالعمل، وعاد إلى مكتبه. لكن هيام تبعته بعد دقائق، حين غادرت الصديقتان المكتب. جلست دون أن يدعوها، وسألته عن رأيه بصديقتيها، فأجاب مجاملاً: إنهما ظريفتان..

لم تُطِل هيام الجلوس وتركت الأستاذ عمر يعمل، وفي نهاية الدوام غادرت إلى بيتها بعد أن ودّعته قائلة: يبدو أنني عطَّلتك عن العمل بدعوتي لك، أراك منهمكاً..

أجاب: بالعكس، كان ذلك من دواعي سروري.. دقائق قليلة وأتهي عمل اليوم.

*         *         *

شغلت هيام جزءاً من تفكير الأستاذ عمر، فأخذ يحلل المواقف ويسأل نفسه عما يدور في رأسها، لكنه استبعد كل الأفكار غير المنطقية التي خطرت له.

في الحادية عشرة ليلاً من نفس اليوم، رن جرس الهاتف في شقته ولم يكن معتاداً أن يتصل به أحد إلا من المؤسسة، ولم تكن في تلك الأيام خدمة إظهار الرقم الطالب متوفرة، فرفع السماعة وهو يقول: (ألو).

كانت هيام على الطرف الآخر، تسأله عن أوضاعه وتطمئن عليه، فشكر لها اهتمامها، وطال الحديث في أوضاع المؤسسة، والمدير والموظفين وما إلى ذلك. لكنها صمتت فجأة ثم قالت له: أريد أن أسألك سؤالاً.. لماذا لم تُجب عن سؤال صديقتي غالية؟ صحيح أنه كان سؤالاً سمجاً، لكن الأغرب منه تجاهلك للجواب.

قال عمر: والله لا أدري يا عزيزتي..

قالت بدهشة واستغراب: معقول!! هل هناك رجل في العالم لا يعلم إن كان متزوجاً أم عازباً؟

أجاب: نعم.. أنا هو.. وأرجوك أن تعفيني من الجواب الآن، سأجيبك عندما أعرف ذلك، هذا وعد.

قالت: أشعر أنني كنت “غليظة” معك، وربما نكأت لك جرحاً، أرجوك أن تعذرني، إنه الفضول، ليس أكثر..

جلس عمر على الشّرفة يستعيد كلام هيام، وعاد يتساءل: ماذا تريد هذه الصبية الصغيرة مني؟ لا أظن أنني أمثِّل فتى الأحلام بالنسبة لها، فلديها في المؤسسة من هو أصغر سناً وأكثر وسامة وغنى، لكن اهتمامها بي يثير فضولي، ربما كان إهمال الجميلات الصغيرات يثير فيهن نوعاً من الأسئلة التي تبحث عن أجوبة، أو ربما كان نوعاً من التحدي بين الأنوثة والرجولة، من يدري؟ أليس كيدُهنّ عظيماً!

*         *         *

غيّرت هيام أسلوبها في التعامل مع عمر، لم تعد تتناول القهوة الصباحية معه في مكتبه، فيما عاد المدير من سفره، وانتظمت الأمور وعادت كما كانت. كذلك لم يسأل عمر عن سبب تغيّر هيام معه، ففد عزا ذلك لعودة المدير على الأغلب، ثم لماذا يشغل نفسه بفتاة صغيرة، تفصله عنها ثلاثة عشر عاماً أمضاها في المغامرة والتجربة والنجاحات والخيبات، وسارت الأمور عادية حوالى عشرة أيام.

*         *         *

رن جرس هاتف شقة عمر في الحادية عشرة ليلاً كما في المرة الماضية، خفق قلبه، هذه أول مرة يخفق قلبه، تردد في الرد، ثم قرر ألا يرد، فظل الهاتف يرن حتى بُحَّ صوته، وشعر عمر بقوة إرادته، وتمكنه من السيطرة على عواطفه محدِّثاً نفسه: لست الذي تسمح له أخلاقه بالضحك على بنات الناس الصغيرات..

في الثانية عشرة منتصف الليل رن جرس الهاتف مرة أخرى، لكنه لم يقاوم هذه المرة، فرد سريعاً، وكأنه ندم على ما فعله قبل قليل، وها هي الفرصة تعود.. كانت على الطرف الآخر هيام، تتحدث إليه سائلة: أين كنت منذ ساعة؟

أجاب: كنت أزور أحد الأصدقاء..

سألت بخبث: أحد الأصدقاء أم إحدى الصديقات..

أجاب: يا بنت الحلال، تعلمين أنني أمضي يومي بين المكتب وبين البيت..

قالت: إذاً من أين لك هذا الصديق؟

صمت وهو يقول في نفسه (يا إلهي! كلّهن مثل بعض، شكّاكات متّهِمات). لكنها أدركت من صمته أنه تضايق من التحقيق معه، فبادرته القول: كنت أخبرتني أن عينيّ ويديّ هي أجمل ما بي.. لكنك لم تستطع اكتشاف شيء آخر سأخبرك به بطريقتي الخاصة.

تابع عمر صمته مصغياً إليها، بينما انطلقت هي بالغناء:

أنا قلبي دليلي قلّي ح تحبّي.. دايماً يحكيلي وبصدّق قلبي..

أنصت عمر لهيام بكل جوارحه، واستمع إلى الأغنية كاملة، ناسياً نفسه وهو يردد الأغنية معها بصوت غير مسموع، فقد كان صوتها فائق الجمال، فيه من العذوبة والدفء والمساحة الواسعة ما يدل على أنها لا تملك الصوت الجميل فقط، بل والمدرَّب أيضاً، فسألها بدهشة: لا شك في أنه أجمل من عينيك ويديك، لكن، يبدو لي أنك مدرَّبة على الغناء.

أجابت: نعم، كان بابا، الله يرحمه، يشجعني على الغناء، بشرط ألا أحترفه، وقد غنّيت مع راغب علامة مرة، ومع ربيع الخولي مرة أخرى، وأُعجِب الحاضرون بي أكثر من إعجابهما بالمطربين المذكورين. وكان قد دربني الأستاذ محمد على الغناء.

سألها: ولماذا اخترت هذه الأغنية بالذات هذه الليلة؟

أجابت بخبث: أما هذه فهي بحاجة لمن يلتقطها على الطاير.

سألها فجأة: هل أنت وحدك في البيت؟

أجابت: نعم، ذهب أهلي للسهرة عن أقرباء لنا، وليس معي في البيت سوى ابن أختي الصغير النائم.

جلس عمر يفكر من جديد، ويستعرض ما جرى الليلة على الهاتف بينه وبين هيام، وفي النهاية حدّث نفسه بصوت مرتفع قائلاً: لن أكون حماراً أكثر من ذلك، حان الوقت لأفهم هذه الصبية الصغيرة، إنها عاشقة فعلاً، ولا أظن أنني مشتبه بعد اليوم!

في اليوم التالي، كانت هيام أول وجه يقابله، ودون أن تسأله جاءت بفنجانَي القهوة، وجلست أمامه. لم يكن يراها بهذا الإشراق من قبل، كانت فائقة الجمال، كأقحوانة برية في حقل من الألغام، فاستعد للمواجهة، وسألها مباشرة: هل تحبينني يا هيام بصراحة؟

أجابت: بعد أن تجيبني عن السؤال الذي تتجنب الإجابة عنه، سأجيبك بكل صراحة.

تململ عمر من جديد، وأرسل زفرة حارّة: والله لا أدري يا هيام.. (وتابع) تلفني لي الليلة، وسأجيبك.

*         *         *

كانت تلك المخابرة أطول مخابرة في حياته، فقد ذهب أهلها لحضور حفل دام حتى الخامسة صباحاً، واستمر الحديث بينهما من العاشرة ليلاً حتى الثالثة فجراً، لم يتركا أمراً لم يتحدثا به، فشرح لها قصة حبه الذي انتهى بالزواج من الحبيبة، وبسبب اختلاف مزاجبهما قررا الانفصال دون أي إجراء للطلاق، فغادر المدينة التي عاشا معاً فيها، وحتى ذلك الصديق الذي كان يحاول إصلاح ذات البين، وينتقل بين المدينتين، قضى اغتيالاً في عملية إرهابية قام بها أصوليون، ولأنه لم يكن قادراً على مواجهتها لحبه الشديد لها، قام بتوكيل صديق لهما بالطلاق إذا رغبت، وغادر البلد، ولا يدري إن تمت عملية الطلاق أم لا.

سألته: هل أنجبتما؟

أجاب: لا.. وهذا أمر أكيد، ولو حدث ذلك بعد مغادرتي لأخبرني صديقي الذي مات، هذا أمر أكيد، والحقيقة لم نكن نرغب بالإنجاب مباشرة، كنا متفقين على ذلك نحن الاثنين.

قالت: وكما وعدتك سأجيبك الآن على سؤالك بعد أن أجبتني: أنا أحبك، وأظن أنك أحببتني، هل تحب الصراحة مثلي؟

أجاب: لكنك صغيرة بالنسبة لي يا هيام.. ثلاثة عشر عاماً ليست فارقاً قليلاً..

قالت بحزم: أنا لا أحب الشباب الصغار المراهقين، لا أحب إلا الرجل الذي يملأ ثيابه..

أجاب: دعيني أتمكن من هضم الأمر في رأسي، دعيني أسبوعاً واحداً أفكر..

قالت: أبلغت أمي بالأمر، وأنت مدعو غداً على العشاء في بيتنا لتتعرف علينا.

لم يستطع عمر النوم تلك الليلة، تراكمت الذكريات في رأسه وازدحمت، تذكر طفولته وأيام الدراسة، والرسائل البريئة، والأزهار المجففة، والأيام الجميلة، والخيبات والنجاحات التي حققها، ثم انتقل إلى الواقع، وأخذ يفكر في دعوة العشاء، وماذا سيحمل في يده وهو يدخل بيتاً للمرة الأولى، ربما سيكون صهراً عزيزاً لهم، وربما يعارض البعض، فهناك أكثر من سبب منطقي للمعارضة، فارق السن، والوضع الاجتماعي، واختلاف البلد، والتجربة غير المضمونة النتائج.

في اليوم التالي كان عمر وهيام متعبين من سهرة البارحة، لكن التعب لم يحُل دون تبادل الابتسامات ذات المغزى هذه المرة حين تقابلا في المؤسسة، وأبدت هيام اهتمامها صراحة بعمر أمام جميع الموظفين، وأمضت ساعات الدوام مترددة على مكتبه بين الحين والآخر، حتى بدأ الموظفون والموظفات بالهمس والنميمة، وافترقا على أمل اللقاء على العشاء في بيت هيام.

*         *         *

غادر عمر شقته قبل موعد الدعوة بحوالى الساعة، يبحث عن هدية يحملها للبيت الذي سيدخله للمرة الأولى، فاختار باقة من أزهار الغلاديول والقرنفل، الأبيض من النوعين، تعبيراً عن القصد الشريف، وعلاقة الصداقة التي قد تجمعه إلى هذه الأسرة، إذا لم تكن مصاهرة. ولم ينس أبداً أنه قد يتعرض للأسئلة المحرجة، فإذا كان صديقه قد أتم عملية الطلاق، أين سيهرب من صديقته التي لم يخبرها حتى بسفره؟

يا رب.. من أين جاءتني هذه الصبية لتذكرني بكل مصائبي التي كنت تعايشت معها؟ وتلك الجراحات التي داويتها بالمسكنات؟ وتلك المشاكل التي لا أبحث لها عن حلول؟ هل سأضيف لعثراتي واحدة جديدة؟ لماذا وافقتها وقبلت الدعوة؟

ما كاد ينهي حواره مع نفسه حتى وجد نفسه أمام باب الشقة، بيت هيام، ودون أن يقرع الجرس، فُتح الباب وأطلت هيام بالعباءة العربية السوداء على الجسد البض، وابتسامة بالنصر تعلو وجهها الجميل، وعيناها تبوحان بالحب والامتنان لأنه وصل على الموعد تماماً.

رحّبت الأم بعمر، وكذلك الأخت الكبرى، بينما نظر ابن الأخت الصغير بعين الريبة لعمر، فلام نفسه لأنه لم يحسب حسابه بهدية مناسبة، لكنه لم يكن يتوقع وجوده.

بعد قليل حضر الصهر زوج الأخت الكبرى، ورحب بعمر، ثم حضر أخوها الأكبر، فقد كان الأخ الثاني مسافراً إلى الخليج ليعمل.

شعر عمر بالراحة للأسرة المضيفة، أحس بأنه يعرفهم منذ زمن، وطالت الجلسة حتى ما بعد منتصف الليل، وحين قرر العودة إلى بيته، خرج الأخ معه ليوصله بسيارته، فدعاه للصعود، لكن الأخ اعتذر، وبينما هو ينتظر المصعد، سمع دويّ انفجار قريب، ولم يكد يدخل البيت حتى كان الهاتف يرن، كانت هيام على الخط تطمئن على سلامة وصوله، فسألها عن أخيها الذي وصل للتو، بعد أن شهد مكان الانفجار دون أن يسبب له الأذى.

*         *         *

مرت الأيام وكل شيء على ما يرام، واستطاع أن يتصل بصديقه ويعلم منه أن الطلاق قد تم، وأن الزوجة التي أصرت عليه تبلّغته في المحكمة وهي تبكي، وقد علمتْ بأنه على علاقة بأخرى تعرّف بها بعد أن غادر المدينة التي عاش فيها مع الزوجة الحبيبة، صحيح أنها أصبحت مطلَّقته، لكنها بقيت الحبيبة العاصية على مغادرة القلب، فما أصعب فراق الحبيب في غمرة الحب! ثأراً لكرامة أو تجنباً لثورة غضب، أو عُنداً وتعسفاً لإثبات وجود.

أصبحت “ثناء” ضحية لِـتَعَنُّتي بما لن يغفره لي الزمن، يا لي من قاتل أمرّ من وحش! كيف يمكن لرجل أن ينسى امرأة منحته نفسها بإرادنها ورغبتها؟ وآثرته على كل الرجال؟ من سيُقدِم على الارتباط بمطلَّقة جعلها هذا المجتمع الظالم مشروع فضيحة قبل أن تدرك معنى الفضيحة؟

سقطت من عيني عمر دمعتا ندم شديدتا الملوحة، وأحاطت به حالة اكتئاب عجِزَ عن تجاوزِها، وشعر بإحباط أفقده القدرة والرغبة في متابعة العمل، ونام تلك الليلة منكبّاً على وجهه.

*         *         *

دخل مقر المؤسسة في صباح اليوم التالي شاحب الوجه والقلب، قابلته هيام بابتسامتها البريئة، فتصنّع الابتسامة، وما إن دخل مكتبه حتى جاء أحد الموظفين يبلغه رغبة المعلّم، مدير المؤسسة بمقابلته.

رحّب المدير به ودعاه للجلوس، بينما كانت نظراتُه المتّهِمة تطال عمر من رأسه حتى أخمص قدميه، دون أن ينطق بكلمة واحدة، فأراد عمر أن يكسر حالة الصمت، فسأل المدير أن يسمح له بالمغادرة إلى مكتبه لمباشرة العمل، لكن المدير استمهله وبادره القول: لم نتحدث بعد..

قال عمر للمدير: تفضل..

قال المدير: هل تعتقد، أستاذ عمر، بأننا جئنا بك إلى هنا، وتكلفنا المبلغ الفلاني لتقوم بمغامراتك العاطفية في المؤسسة؟

أجاب: ماذا تقصد أستاذ؟

قال: أين كنت مساء أول البارحة؟

أجاب: عفواً أستاذ.. بعد انتهاء الدوام أذهب أينما أشاء دون إذن أحد..

قال المدير: حتى أنا؟

أجاب: لا أظنك ترضى أن تكون حالة شاذة عن القاعدة..

قال: لا بأس، يمكنك الانصراف..

عاد عمر إلى مكتبه مذهولاً، ولاحظت هيام ذلك فتبعته وسألته: ما القصة؟

أجاب: لا أدري من أوصل له الخبر بأنني كنت في زيارتكم منذ يومين، والأستاذ يريدني أن أستأذنه قبل أن أذهب إلى أي مكان..

قالت: هل لديك مكان للسر؟ إنه لا يريد لأحد أن يفكر بي، وقد عرض علي الزواج، لكنه متزوج، وأولاده أكبر مني، ويزيدني بخمسة وعشرين عاماً.

ما كادت تكمل هيام حديثها حتى كان المدير واقفاً بالباب، معتبراً أنه قبض عليهما بالجرم المشهود، لم ينطق بكلمة واحدة، فأدار ظهره وعاد من حيث أتى. لكنه أنهى عقد عمر دافعاً له كل مستحقاته، بما في ذلك تيكت الطائرة، واستغنى عن خدمات هيام دافعاً لها تعويضاتها هي الأخرى، وقبل خروجها من المؤسسة استدعاها قائلاً:

لن تتمكني من العمل في مؤسسة أخرى.. وحين يعود عقلك إلى رأسك أرحب بك هنا، ولكن بشروط جديدة..

*         *         *

رافقت هيام “عمر” إلى المطار الدولي والدموع تملأ عينيها الجميلتين، ويداه تحتضنان يديها اللتين أحبهما.. بينما كان راديو التاكسي الذي يقلّهما إلى هناك يشدو بصوت فيروز: مشوار جينا عالدني مشوار..

قصة دريد نوايا

Comments are disabled