ليلة ذكريات الحب والموت

أنهت “هند” للتو ترتيب حقيبة زوجها “عادل” الصغيرة، فقد اقترب موعد سفره إلى دمشق ليوم واحد وليلة، إذ أن لديه موعداً مع مدير التلفزيون مساء ذلك اليوم، دون أية تفاصيل، لكنه قدّر بينه وبين نفسه أن المدير سيكلفه بكتابة عمل درامي، وهو الأديب والكاتب.

أبدت هند رغبتها بمرافقة عادل إلى دمشق، فمنذ أربعة أعوام لم تطأ قدمها هذه المدينة، لكن ذلك لم يكن السبب الرئيسي لهذه الرغبة في مرافقة الزوج، إنه الشك الدائم بالرجال، فقد كانت أمها تردد دائماً على مسمعها المثل القائل “يا مْأمّنة بالرجّال متل المي بالغربال”، وقد حفظته عن ظهر قلب، ومارسته على مدى السنوات الخمس التي عاشتها حتى الآن مع عادل، بالرغم من أن ليس لها أية ملاحظة على سلوكه، لكن الاحتياط واجب، والجيّد قد يصبح سيئاً، من يدري؟

لكن عادل أقنعها بأن الجلسة ستكون بين أصدقاء من الرجال، ولا مجال لوجودها معه، لأنه بذلك سيفرض على المدير أن يدعو زوجته، وربما كان هذا مربكاً له، فالعمل عمل. قالها بحزم، فاقتنعت هند.

وضع عادل حقيبته على مقعد السيارة الخلفي، ثم أدار محركها، وانطلق من حلب باتجاه دمشق، وكما خطّط تماماً، استغرق الطريق معه أربع ساعات ونصف الساعة، بما في ذلك وقفة الاستراحة في حمص، تناول خلالها فنجاناً من الشاي.

في مبنى التلفزيون استقبل المدير عادل بحرارة، فهو صديق قديم، جمعتهما الدراسة الجامعية، وثلاث سنوات بعدها كان عادل يقيم خلالها في دمشق، قبل أن ينتقل إلى حلب بعد تلك الصدمة التي تلقاها من القدر الذي لا يرحم.

بعد أن شرح المدير فكرته لعادل، وتحاورا فيها، تم الاتفاق على النص، فطلب المدير من سكرتيرته تجهيز العقد، وترتيب السلفة في الغد، لأنه لا يريد أن يرهق الأستاذ عادل، ويضطره للبقاء أكثر، وهكذا كان. وقبل أن يودعه، تواعد معه في أحد مطاعم دمشق القديمة، داعياً إياه على العشاء، على أن يرتاح قليلاً في الفندق من عناء السفر، وهكذا كان.

*         *         *

وصل عادل إلى المطعم مبكراً، قبل وصول المدير. وقبل أن يدخله ركن السيارة في مكان يبعد بضع عشرات من الأمتار عن المطعم، وكان سعيداً بتلك الخطوات التي خطاها في أزقة دمشق القديمة، وقال في نفسه:

  • الله.. الله.. يا زمن! كم تغيرت دمشق عن تلك الأيام! تكاد بيوتها القديمة تتحول جميعاً إلى مطاعم.

وقبل المطعم بخطوات قليلة توقف عند زقاق ضيق، كانت له فيه ذكرى، فابتسم بعفوية دون أن يشعر، وهز رأسه، ثم دخل المطعم.

رحب النادل به، وسأله: ماذا تشرب أستاذ؟

أجابه: بعد قليل، حين يحضر صديق لي، لكن، دعني أحتسي فنجاناً من القهوة الآن..

سرح خيال عادل وتذكر الزقاق المجاور، فأشعل سيجارة مع فنجان القهوة، ثم أشعل سيجارة أخرى، وهو غارق في ذكريات الماضي:

كم كانت لذيذة تلك المرأة! كم كانت أستاذة! إنها المرأة الأولى في حياتي دون منازع.. هي من علمني فن الحب. يا إلهي كم كان ساخناً ذلك اليوم! كانت ثالث مرة ألتقي بها مع ابنة عمتي في حديقة السبكي، يومها اشتريت لهما وللأولاد عرانيس الذرة، ثم ركب الجميع معي في السيارة، فنزلت ابنة عمتي قرب بيتها، فيما طلبت مني أن أوصل “رجاء” بسيارتي إلى بيتها في دمشق القديمة، وكانت ابنة عمتي مرحة جداً، فأوصتني بها خيراً، وهي تحرّك حاجبيها إلى أعلى وإلى أسفل، فنزلت “رجاء” من المقعد الخلفي، وجلست في المقعد الأمامي على يميني. يومها أبديت كل براعتي في قيادة السيارة، بينما كانت هي تدلني على الطريق، حتى وصلنا إلى هنا، دعتني إلى البيت، فشكرت لها مجاملتها، لكنها أصرّت علي، وبدا لي الأمر جاداً، وليس من قبيل المجاملة، حتى أنها انتزعت مفتاح تشغيل السيارة، وأجبرتني على النزول، فامتثلت.

شريط الذكريات مازال يعدو سريعاً في الذاكرة:

يومها ساعدتها بعبور أطفالها الثلاثة إلى الرصيف الآخر، ودخلنا هذا الزقاق، وصعدنا طابقاً واحداً، وكان كل شيء طبيعياً كما بدا لي. قلت لها: أنا مستعجل يا رجاء، فأجابتني: والله لن تذهب قبل أن تشرب القهوة، وبينما هي تحضِّرها في المطبخ، وباب الشقة مفتوح، وقفت بالباب صبية لم تبلغ العشرين، تسأل عن الابنة الكبرى لرجاء، فقفزت البنت من الداخل، وتبعتها أختها الأصغر، ولم يبق إلا الصبي الذي تعلم المشي منذ أسابيع قليلة، فأخذت الصبية الطفلتين بعد أن استأذنت رجاء، ومضت بهما.

جاءت رجاء بالقهوة، وأعطت الطفل لعبة يلهو بها بالقرب منا على الأرض، وتبادلنا الأحاديث العادية، حتى فرغت من فنجان قهوتي وسيجارتي، فقلت لها: دايمة إن شاء الله، اسمحي لي بالخروج.

نهضت رجاء فجأة وهي تستمهلني: لحظة من فضلك..

دخلت غرفة نومها، وبعد لحظة تناهت إليَ من تلك الغرفة نفحة عطر، قلت في نفسي، أعرف هذا العطر، أكثر البنات يستعملنه هذه الأيام، إنه “فيدجي”.

خرجت رجاء، وأغلقت باب الشقة بيمينها، ووقفت أمامي، لا تفصلها عني سوى سنتيمترات قليلة، ونظرت إليّ بعينيها الجائعتين، بينما تسمّرتُ أنا في مكاني كتمثال، فبادرتني القول: “نحن.. لماذا أرسلنا البنات مع الجارة؟”. تحرّكت يداي المسبلتان دون أن أشعر نحو الأعلى، فارتمت على صدري، ولا أدري ماذا حصل بعد ذلك، لكنني أتقنت فن تقبيل النساء والتعامل معهنّ، مع هذه المرأة، وهذه الخبرة لا تزال تلازمني.

وبينما كان يبتسم بشكل عفوي حين تذكر ما قالته له يوما: “البارحة خنتُك مع زوجي”، وصل مدير التلفزيون ومعه صديق آخر، فقطع شريط الذكريات، وصحا من غيبوبته، فوجد في صحن السجائر أربعة أعقاب سجائر محترقة حتى الفلتر.

*         *         *

قدّم مدير التلفزيون صديقه لعادل: الأستاذ أحمد، باحث في الميثولوجيا.

كان أحمد وعادل يعرف كل منهما الآخر بالاسم، وهذه هي المرة الأولى التي يلتقيان فيها، وما إن حضر المدير حتى استنفر مضيفو المطعم، وأصبحت الخدمة ممتازة. سأل المدير عادل وأحمد: ماذا تشربان؟

أجاب الاثنان معاً: العرق طبعاً..

وتابع عادل: إنه سيد المشروبات.. (بدها سؤال)

بقي الثلاثة في المطعم حتى الواحدة بعد منتصف الليل، وانحصر الحديث في الأدب والدراما والميثولوجيا السورية، ويبدو أن عادل شرب أكثر مما يتحمّل، فعرض عليه الصديقان إيصاله إلى الفندق، لكنه شكر لهما محتجاً بأنه يريد أن يتجول في شوارع دمشق بسيارته، فقد اشتاق لهذه المدينة الساحرة.

قاد عادل سيارته بهدوء نحو القشلة، فالباب الشرقي، والتف نحو اليمين إلى دوّار المطار، ثم ابن عساكر، ثم باب المصلى، ثم المجتهد، ودخل شارع ابن الوليد، وتابع وهو يستمع إلى شريط لفيروز في سيارته، إلى محطة الحجاز، جسر فكتوريا، الفردوس، 29 أيار، السبع بحرات، المزرعة..

عادت الذكريات تتكوّم في رأسه، كان عقله الباطن يقوده إلى هناك، وكانت عجلات السيارة تستجيب، شارع الملعب، إلى اليمين قليلاً: لا بد لي من أن أحج إلى ذلك البيت.

أسرع قليلاً، ثم أبطأ وهو يدخل تلك الساحة: ها هو البيت، إنه كما كان، لم يتغير فيه شيء، لكن، لماذا هو مظلم، لماذا لا يخرج من إحدى نوافذه بصيص نور، هل يعقل أن يكون خالياً.. ليتني أدخله! إنه الذكرى الأجمل في حياتي..

أوقف السيارة إلى جانب الرصيف، وخلال لحظات شعر بهموم الدنيا تركب رأسه، ويبدو أن المشروب زاد الطين بلة:

كم جلسنا على هذه الشرفة! عام كامل وشهر من السعادة، بعد خمس سنوات دراسة، وثلاثين شهراً في خدمة العلم.

دمعت عيناه وهو ينظر إلى ذلك البيت، ثم انفجر بالبكاء، وانتحب، والليل يستر ضعفه وهجمة الذكريات الغالية:

كم كانت غيورة ودافئة! كانت تقبّلني حين أخرج، ثم تناديني فألتفت إليها، فتشير لي بسبابة يدها ووسطاها إلى عينيها الناطقتين، ثم تضع الإصبعين في جيبها، تريد أن تقول: ضع عينيك في جيبك، إياك أن تنظر إلى أحد غيري. وحين كنت أعود إلى البيت، تهرع كالفراشة لتعانقني، بينما كنت أسلِّم عليها بصيغة الجمع:

“مرحبا مرتنا..”

وكانت تجيبني بضحكتها الساحرة: “مرْت مين فيكن؟”.

أذكر حين اشترينا البيت كيف استدنّا جزءاً من ثمنه من عديلي، زوج شقيقتها الوسطى، ودخلناه خالياً من أي شيء إلا من الحب، وفي اليوم التالي اشترينا (صوفايتين)، وبعد شهر أوصينا على غرفة النوم، وصرنا ندفع أقساطها أسبوعياً. نمنا أول ليلتين دون كهرباء، إذ لم يكونوا قد ركّبوا لنا العداد، وكنا نستخدم المياه المعدنية لكل حاجاتنا، بينما يركّبون لنا عدّاد الماء، كان سعر الصندوق يومها ثلاث عشرة ليرة فقط، وكم كنا سعيدَين!

لا أنسى كيف أمضينا أول ليلة في البيت، كانت (الصوفاية) ضيقة لا تتسع لاثنين، وأصرت أن تنام بجانبي، كدت أقع على الأرض، بينما هي نامت 24 قيراط، خشيت أن أزعجها إن تحرّكْتُ، فبقيتُ دون حراك حتى استيقظتْ، ونهضتُ مكسّراً، متيبّس الظهر والمفاصل.

آه من هذه الدنيا! ثلاثة عشر شهراً وانتهى كل شيء.. بذلتُ المستحيل لعلاجها، ولم أتمكن من ذلك، لكنها كانت تعرف النهاية، وكانت راضية بها. في ذلك اليوم المشؤوم رأيتها في منامي، تركب دراجة بثلاث عجلات، وتلوّح لي بيدها ماضية إلى غابة كثيفة، وحين استيقظت اقتربت منها، لم تكن تتألم في تلك الساعة، لكنها أمسكت بيدي مبتسمة وقالت:

عادل.. الدنيا لا تنتهي بانتهاء شخص.. إياك أن تعتبر الزواج من بعدي خيانة لي.. أنا لم أستطع أن أمنحك الولد.. كذبت عليك يا عادل.. سامحني لأنني لم أكن أتناول الحبوب المانعة للحمل، كنت أريد أن أفاجئك لكن القدر أراد شيئاً آخر.

لم أتمالك نفسي يومها فبكيت أمامها، راجياً إياها ألا ترحل.. لا أريد ولداً.. لا أريد إلا أن تدوم تلك الابتسامة الساحرة على الوجه الجميل، كنت أود أن تكرر لي دائماً تلك الإشارة: ضع عينيك في جيبك، وكنت أود أن أخاطبها بصيغة الجمع دوماً، وفي كل مرة نضحك، وكأننا نقول ذلك للمرة الأولى، لكنها رحلت.

لا أنسى يوم دفنها كيف أراد ذلك الرجل الذي يعتبر نفسه قيّماً على الدين أن يمنعني من توديعها، عندما صاحت لي امرأة من داخل الغرفة التي ترقد فيها قبل الدفن، صرخ الرجل بأعلى صوته:

  • لا يجوز.. لا يجوز.. لقد حرمت عليه.. المرأة المتوفاة تحرم على زوجها.

نظرت إليه بقرف، وحين أصر وأراد أن يمنعني من وداعها طردته، ودخلت، كم كانت مطمئنة راضية، كم كان لون وجهها الحبيب باهتاً! حين انحنيت على وجهها أقبِّله كان بارداً، لكن رائحتها، عبيرها، مازال يسكن أنفي وكياني.

لم أستطع أن أراهم يوارونها الثرى، لا أقوى على ذلك المشهد مهما حاولت، أعترف بأنني أجبن من ذلك.

بزغ الفجر وبدأت حركة الناس ولم يذهب عادل للنوم، وحين وضع رأسه المتعَب على الوسادة غط في نوم عميق، لم يستيقظ إلا بعد الظهر، لكن المدير كان قد أنجز له كل الأوراق، ووقع الشيك، وعاد أدراجه إلى حلب.

قصة دريد نوايا

Comments are disabled