سحْر القصيدة..

على الرغم من وجود الأصدقاء، والعمل المتواصل في البلد الشقيق المجاور لبلده، والعلاقات الدائمة التوتر بين سلطتي البلدين، كأي بلدين عربيين متجاورين، كانت الغربة تجد طريقها إلى مشاعره حين يخلو إلى نفسه في كثير من الأحيان. كان “طارق” قد حضر إلى ذلك البلد ليشارك في مؤتمر علمي، نال فيه الميدالية الفضية، وتلقى عروضاً بالعمل، وافق على أحدها، وارتبط لمدة عام.

لم يكن حضوره إلى هناك من بلده، بل من بلد شقيق آخر.. كانت مغامرة حقاً، فقد كان يضع في حساباته أنه سيخضع للاستجواب من السلطات الأمنية حين يعود إلى بلده، إذ أُدرج اسم البلد الذي يعمل فيه في جواز سفره بعد كلمة (ماعدا)، فدخل البلد الشقيق بالهوية الشخصية، كونه بلداً مجاوراً، وكانت مخالفة يعلم أنه سيدفع ثمنها، لا يدري نوع هذا الثمن أو حجمه. لم يفكر يوماً بعدم العودة إلى بلده، لذلك كان مستعداً أن يدفع هذا الثمن مهما بلغ.

ستة أشهر مضت على وجوده هنا، حقّق خلالها صداقات عدة، أُسَراً وأفراداً، وكان محاطاً بأحبة رحبوا به، واستقبلوه إلى بيوتهم، منهم صديقان زوجان، ضياء وشذا، اللذان كانا يترددان كثيراً على مكتبه في المساء، وكثيراً ما كانت ترافقهما الأمّورة “جلنار” أخت شذا ذات الثلاثة عشر ربيعاً، وكانت تعتبره “خطيبها”، وهو ابن الثامنة والعشرين، وتمارس عليه “سلطتها”، بخفة دمها المعهودة، وكان يستجيب لطلباتها، في “اسكتشات” لذيذة مثيرة للابتسام والضحك أحياناً، والتسلية دائماً.

وعلى الرغم من أنه فارق “هيفاء” حبيبتَه ابنةَ بلده منذ حوالى السنة مختلفَيْن لأمر لم يجد له مبرراً منطقياً، لكنه حصل وأدى إلى الخلاف.. ربما كانت محقَّة في موقفها، بل ربما كان يعتبر الكثير من الشباب في ذلك الزمن أنها محقة وهو المخطئ، لكنها بالغت في الأمر كثيراً، إذ لم يكن يستحق القطيعة.

جلس ذات ليلة في البيت شارد الذهن، في لحظة مصارحة صادقة مع النفس، ثم أطلق زفرة حارة وهو يقول: أحب هيفاء، لم أعد قادراً على خداع نفسي، إنني أحبها، ولم تغادر صورتها خيالي لحظة واحدة منذ افترقنا. لماذا لا أكون صادقاً مع نفسي ومعها، وأكتب لها رسالة لأصالحها؟

ولأن خير البر عاجله، أمسك ورقة وقلماً وكتب لها:

“عزيزتي هيفاء.. جربت الابتعاد عنك عاماً كاملاً، وها أنذا أعلن هزيمتي أمام حبك.. إذا لم ترتبطي بأحد أرجوك أن تكتبي لي، و…… حقك علي…”

لم يكن الاتصال الهاتفي متوفراً بين البلدين الشقيقين في ذلك الزمن، وأكثر من ذلك، كانت الحدود مغلقة بينهما، والبريد يتأخر كثيراً. وحين ألصق الطابع البريدي على المغلف، وألقى بالرسالة في صندوق البريد، لم يكن أمله كبيراً بوصول الرسالة، لكنها كانت العلاج الوحيد الممكن لحالة الحنين التي أرهقته تلك الليلة، والمحب يتعلق بالأمل، مهما كان ضعيفاً.

مضى أسبوعان على إرسال الرسالة، وفي كل يوم يمر، يضعف الأمل بالرد، لكن ساعي البريد فاجأه في اليوم السادس عشر برسالة مقتضبة من هيفاء، تقول فيها: “الأستاذ طارق.. ماذا تريد مني؟ لم أرتبط بأحد، لكنني أريد أن أعرف بالضبط ماذا تريد مني”.

كانت فرحته غامرة برسالة هيفاء، طار فرحاً، ودعا أصدقاءه على العشاء في مطعم تعوّد لقاء الأصدقاء فيه، وحين عاد إلى البيت، جلس إلى الطاولة يستجدي قلمه كلمة واحدة، لكن ذكرياته غلبته، ولم يستطع أن يكتب أية كلمة، ألا تكمن البلاغة أحياناً في الصمت؟

“لم أسعَ إليها في البداية، كانت المنافسة شديدة بين مجموعة الزملاء عليها، ومن طبعي عدم الرغبة في المنافسة على امرأة، وكانت تلعب بالجميع”.

علا صوت ضحكته حين تذكر أنها قالت يوماً إنها لا تحب “الشوارب”، وفي اليوم التالي كان الجميع حليقي الشوارب إلا هو، حتى أنه بدا الرجل الوحيد بينهم، وهم يتناولون الشاي بوجودها في ندوة الكلية التي تخرّج منها، ومازال يتردد على ندوتها. كانت تأتي مع أخيها، مع أنها ليست طالبة، فقد ظهرت فجأة، وسلبت عقول الشباب، قال أخوها إنها كانت مسافرة وعادت.

على الرغم من أنه لم ينافس أحداً عليها، بل فضل الابتعاد لأنه لا يحب وجع الرأس، كان يشعر بإصغائها إليه حين يتحدّث، وكانت تنظر إليه أكثر من الآخرين، كما كانت تؤيده حين يطرح فكرة ما، وفي إحدى المرات استغلت نهوض أحد الأصدقاء من مقعده بجانب طارق، وجلست عليه.

كل الدلائل تشير إلى اهتمامها به دون بقية “الشلة”، حتى صارت تجلس إلى جانبه باستمرار، بل كانت تطلب من أحدهم التخلي عن مقعده لها لتكون بقربه، وتدور أحاديث جانبية بينها وبينه، وكان هذا يزيد من تعلُّقه بها.

عينا المرأة العاشقة تفضحانها دوماً، خاصة عندما تبدأ الحديث عن نفسها لمن تختاره، وتبوح ببعض “أسرارها” إنه يدرك هذه الحقائق، وهذا ما كان يحصل، حتى تجرأ يوماً ودعاها إلى “كافتيريا بشير” خارج الكلية، فقبلت. وهناك كان لا بد من التحدث براحة كبيرة. قال لها: “أصبحتِ يا هيفاء أمراً شديد الأهمية بالنسبة لي، أستطيع أن أقول لك إنني أحبك، ولا أطلب منك أن تجيبيني الآن إن كنت تبادلينني مشاعري، لديك أسبوع للتفكير”.

كانت هيفاء أكثر وضوحاً منه فأجابته: “ما تمنحني للتفكير به أسبوعاً أمر فكّرت به قبلك وانتهيت، وأستطيع أن أجيبك الآن.. أنا أيضاً أحبك”.

تنهّد طارق وقال بأسف شديد: “لكنني لست جاهزاً لأعبر بشكل عملي عن هذا الحب.. أنا على أبواب سفر يا هيفاء، ولأنني أحبك لا أريد أن أؤثر على مستقبلك، ليس لدي من المال ما يكفي إلا للسفر”.

صار طارق يخرج مع هيفاء كل يوم، حتى حان موعد السفر:

“غداً سأكون في العاصمة، طائرتي بعد ظهر الغد”.

قالها بغصة، وسارا في الشارع ليوصلها إلى بيتها، وحين دخلا البناية، عانقها بسرعة وقبَّلها بحرارة، وكانت تلك المرة الأولى التي يفعل فيها ما فعل. ونظر إليها فوجد الدموع تملأ وجهها الجميل المتوهج، فحسب أنها تبكي لفراقه، لكنها انقلبت فجأة وقالت: “أنت مثل غيرك, كنت أحسبك آدمياً، فإذا بك كبقية الزعران، انسَ أنك تعرف واحدة اسمها هيفاء، واعلم أنك لم تكترث بسمعتي، ولم تحسب حساب الجيران”، وركضت نحو سلّم البناية، وكان هذا آخر لقاء بينه وبينها.

*         *         *

بعد أن استعرض كل ذكرياته معها، كتب لها يطلب الزواج منها، ويخبرها بأنه أصبح قادراً على تحمل أعباء الزواج، على أن تأتي إليه في البلد الممنوع القدوم إليه، ولو تسرُّباً من الحدود، وذيّل رسالته المفعمة بالشوق بقصيدة أسعفه الوحي بها يقول مطلعها:

اطوي الحدودَ مشـارقاً بمغاربِ     وثِبي، فما عرَضَ الزمان لواثِبِ

إنّي على سـكب المدامع غالبٌ     لكنَّ شـوقي في انتظارِكِ غالِبي

لا تظلمي المشـتاقَ في هَفَواتِهِ       فإذا عتبْتِ على الأحبَّـةِ عاتِبي

إن العتابَ، وإن قسـا، لمحبَّبٌ       إلى المُحِبِّ من الحبيبِ العاتـبِ

إلى آخر القصيدة..

سحرتها القصيدة، قرأتها مرات ومرات، حفظتها عن ظهر قلب، نامت تلك الليلة والقصيدة على صدرها، ثم استيقظت واتخذت قرارها الذي لخَّصتْهُ في برقية أرسلتها لطارق في الصباح الباكر: “إذا كنت تريدني، أرسل لي وكالة للزواج باسم أخي”. وكانت مفاجأة طار لها فرحاً.

خرج إلى أحد المحامين من أصدقائه وطلب منه أن يساعده في تنظيم الوكالة المطلوبة، فأنجزها المحامي خلال يومين، فأرسلها في رسالة، وبعث ببرقية يخبرها فيها بإرسال الوكالة.

قرأت هيفاء الوكالة ولم تتمالك نفسها من شدة الضحك، فقد استرعت انتباهها عبارة كتبها في آخر الوكالة تقول: “على أن تكون العصمة بيدي”.

*         *         *

كان أروع يوم خميس في عمره، حين تلقى برقية منها تبلغه فيها بقدومها إليه يوم الاثنين المقبل، أراد أن يقبِّل البرقية، لكنه خشي أن تغضب هيفاء، فراح يختبئ خلف الستارة ويشم رائحتها. وأبلغ أصدقاءه من المقربين، وراح يعدّ للقائها، ويسرح خياله في رسم سيناريوهات اللقاء المرتقب، وحين حلّ يوم الاثنين، استعد الأصدقاء بسياراتهم لاستقبال العروس الجميلة، وكان الجميع بانتظارها في السادسة مساء، في المطار الدولي.

انتظر الجميع حتى السابعة، ولم تحضر الطائرة، فدخل أحد الأصدقاء ليسأل موظف الحركة في المطار، وعاد عابساً وهو يخبر الجميع بعدم وجود رحلة على الإطلاق، فعادوا أدراجهم، وتبخر الحلم الجميل.

كانت الخيبة واضحة على طارق، حاول أن يوجد المبرر، سأل إن كانت له برقية تنبئه بتأخيرها فلم يجد، لكن نساء الأصدقاء فسروا الأمر بطريقتهن، فقلن له: “كما تعلم، ربما كان هناك سبب نسائي لتأجيل الموعد”. فَهِم ما يقصدن، لكنه أحس بصداع شديد، فأخذه أحد الأصدقاء إلى كافتيريا، بينما انصرف الباقي إلى بيوتهم. ومر الوقت بطيئاً، بينما كان الصديق يسايره ويروي له النكات محاولاً مساعدته على تجاوز خيبته.

فجأة سأل طارق صديقه: “كم الساعة الآن؟” أجابه: “الثامنة والنصف”، قال: قم معي.. سأعود إلى المطار، ولن أعود إلا وهيفاء معي.

تجاوب الصديق معه، واتجها نحو المطار، وحين وصلا، شاهدا على “التابلوه” رقم الرحلة واسم شركة الطيران، بينما كان الضوء الأخضر الثاني يشتعل وينطفئ، هتف طارق: “وصلت الطائرة”. سأله صديقه: “ما أوصاف هيفاء”، أجابه: “أجمل امرأة يمكن أن تشاهدها في حياتك”. كرر السؤال: “هل هي شقراء؟ سمراء؟ طويلة؟ قصيرة؟” أجاب: “قلت لك أجمل امرأة في العالم وكفى”، وبينما هما يتحاوران، كانت هيفاء تلوِّح بيدها الجميلة من بعيد، وزجاج نوافذ المطار يشوِّه صور الناس في الداخل والخارج، وما هي إلا دقائق، حتى أصبحت هيفاء خارج قاعة الاستقبال.

فتح طارق ذراعيه لها، فارتمت على صدره، فاحتضنها بشوق شديد، واستدار بها عدة مرات، حتى أنه نسي صديقه الذي رافقه، لكنه انتبه فاعتذر، وعاد الثلاثة إلى المدينة، بينما استقل طارق سيارة تاكسي مع هيفاء إلى البيت.

*         *         *

في اليوم التالي، ترافق طارق وهيفاء مساءً إلى مكتبه، لتتعرف إلى مكان عمله، وما هي إلا لحظات حتى دخل صديقاه ضياء وشذا، ومعهما الأمورة الصغيرة “جلنار” التي سألت طارق عن هيفاء باللهجة المحلية المحبّبة:

ـ مين هادي؟

أجابها: هذه هيفاء زوجتي.

بحلقت جلنار عينيها، وبدت امرأة صغيرة تدافع عن حبها:

ـ لَعَدْ أنا شلون؟

ثم نظرت إلى الأسفل منكسرة القلب، وصمتت الصغيرة العاشقة، بانتظار إنهاء الزيارة، والهروب من الموقف الذي يبدو أنه فاجأها، وكسر قلبها، بينما ارتبك طارق أمام هيفاء، فانسحب الزوار الثلاثة ولم يعودوا.

ساد الصمت عدة دقائق، فيما كان كل من طارق وهيفاء يحاول اختيار كلماته لكسر حالة الصمت والإرباك، فوجد طارق أن الأفضل أن يظل صامتاً، متشاغلاً بترتيب بعض الأوراق، بينما تخرج هيفاء عن صمتها وهي تسأل طارق:

ـ هل أستطيع قراءة القصيدة التي كتبتها لهذه الطفلة الكبيرة؟

ضحك طارق، وعانق هيفاء، فابتسمت متجاهلة ما حدث، وهي تقول:

ـ إنه سحر الشعر الجميل! يا لك من رجل!!!

قصة وقصيدة دريد نوايا

Comments are disabled