هكذا بدأت.. هكذا انتهت.. “تحت الشتي”

الثانية من بعد ظهر صيف حار.. جرس الهاتف الأسود القديم الإنكليزي الصنع يرن بقوة.. يستيقظ “طلال” على صوته، ويرفع السماعة الثقيلة: ألو..

صوت نسائي يقول: مرحباً.. هل أستطيع التحدث مع الأستاذ طلال؟

أجاب: طلال معك.. تفضلي..

قالت: ألم تعرفني؟ هل نسيت صوتي؟

فكّر طلال قليلاً وهي لا تزال تتحدث، محاولاً تذكّر الصوت، لكن الذاكرة لم تسعفه، فقال: المعذرة، استيقظت من النوم للتو، وحسبتُك قارئة تريد استفساراً ما، من أنت؟

قالت: أنا أيضاً قارئة متابعة.. لكن.. ألم تتذكر صوتي؟

أجاب: أرجوك لا تعذّبيني.. لم أتذكر..

قالت: أنا منال.. إلى هذا الحد يمكن للرجل أن ينسى من عاشت معه عاماً كاملاً حباً وزواجاً؟

قال مندهشاً: ماذا ذكّركِ بي يا منال؟ ثماني سنوات انقضت، ملأتها الأحداث والمشاغل.. نعم.. هذا هو صوتك.. يبدو أنني مازلت تحت تأثير النوم.

قالت: أريد أن أراك الآن.. ضروري جداً..

صمت قليلاً، وقد انتبهت زوجته للحديث، وبدا أنها عرفت أن زوجته السابقة تتحدث إليه، تريد مقابلته، فأصغت إلى الحديث..

فكّر طلال للحظات وقال لمنال: أن أقابلك.. هذا غير ممكن.. أما إذا كنت بحاجة لأي مساعدة، دون أن أراك، فأنا حاضر..

قالت: حاجتي أن أقابلك.. أريد أن أعتذر إليك.. و..

أجاب: لا حاجة للاعتذار يا منال بعد ثماني سنوات من الانفصال.. أنا سامحتك مباشرة، وتمنيت لك السعادة..

قالت: هل يستطيع المحب أن يسامح؟

أجاب: نعم.. أنا سامحت في الماضي.. وأؤكد الآن.. أرجوك لا تحاولي التأثير علي، لدي زوجة أحبها، وطفلة أرى الدنيا بعينيها.. أرجوكِ يا منال..

وأقفل الخط، وهو مذهول، بينما كانت زوجته تنظر إليه نظرات لم يستطع أن يفسّرها، كان الذهول والارتباك بادياً عليها.

لم يكد يضع السماعة مكانها حتى رن جرس الهاتف من جديد، وكان لا بد من الرد.. فبادرته القول: إلى هنا وصلنا؟ تقفل الخط بوجهي يا طلال؟

أجاب: منال أرجوك.. هل تعتقدين بأنني قابلت غيرك حين كنا معاً؟

قالت: أبداً.. إنك أشرف الرجال وأصدقهم، لذلك أريد أن أقابلك.. لكن يبدو أن زوجتك بقربك!

أجاب: نعم.. ويمكنك التحدث إليها..

أعطى طلال سماعة الهاتف لزوجته التي قالت: ألو.. واستمعت قليلاً ثم أعادت السماعة إلى مكانها.

سأل طلال زوجته: ماذا قالت لك؟

أجابت الزوجة: أوصتني بك.. وهنّأتني باختيارك.. وتمنت لنا السعادة.. لكن من أين جاءت برقم هاتفنا؟

قال: تعلمين أن عنواني معروف لكل من أراده، ويمكن الحصول عليه من أي من منشوراتي.. وربما من أي مكتبة تعرض كتبي..

*         *         *

كانت “منال” رفيقة الزمن الصعب، تعرّف بها ذات يوم في لندن، حيث نزل حديثاً في بانسيون تديره سيدة عربية، إذ كان يعمل في إحدى الصحف العربية الصادرة هناك، وكانت منال نزيلة نفس البانسيون، فطلبت مساعدته حين علمت أنه سوري، لحمايتها من شخص تعرّض لها، وكان المطر يهطل بشدّة في الخارج، فانبرى للمهمة بشهامة الرجل الشرقي، واستطاع أن يضع للرجل خطاً أحمر، وأن يطرده من حياتها.

كان طلال وحيداً في عاصمة الضباب، وكان مناصراً للمرأة دون حدود، دوماً يقف إلى جانبها، ويدافع عنها، لا يريد أجراً على ما يقدّمه لها من خدمة، ولا يسأل أو يستفسر عن أي شيء خارج المشكلة التي يتصدّى لها، إلا بما تريد هي أن تبوح له به. إنه يكره أن يُضطَرَّ الآخرين إلى الكذب، ويحترم الحياة الخاصة ويقدِّسها، ويكره التجريح بالآخرين، وبالمرأة على وجه الخصوص.

ويبدو أن منال أدركت ذلك سريعاً في شخصيته، واطمأنت إليه، فأرادت المحافظة على صداقته، كما وجد طلال فيها صديقاً من الجنس الآخر، له تأثيره الإيجابي على ما يعانيه من الغربة، فصارا يلتقيان بشكل يومي، وفي كل مرة يزداد ارتياح كل منهما للآخر، ويكشف المزيد من ماضيه.

كانت منال امرأة مطلَّقة، تزوّجت وهي في الثالثة عشرة من عمرها من رجل في التاسعة والثلاثين، يعيش مع أخواته العازبات الثلاث اللاتي يزدنه عمراً، وأمِّه العجوز. ولولا خالتها زوجة أبيها لما حدث ذلك، وهي لا تزال في المرحلة الدراسية المتوسطة. بكت يوم عرسها.. توسّلت لأبيها وخالتها دون جدوى، فقد كانت تحب ابن جيرانها “رأفت”، الذي مازال يملأ قلبها، على الرغم من مرور عشرة أعوام على زواجها ثم طلاقها، أمضتها بين أربع حموات يحصين عليها أنفاسها، وتمارس كل منهنّ سلطتها عليها، وكان الزوج يواسيها بالكلام الجميل.

سألها طلال: ألم تحبّيه طوال هذه السنوات؟

أجابت: بل كنت في كل دقيقة أزداد كرهاً له، وكان يعرف ذلك من خلال تصرفاتي معه.. لكنه كان يعشق كل شيء فيّ، لم يُسئ إليّ في يوم من الأيام، إلا أنه كان لا يريد أن يُغضِب أمَّه أو إحدى أخواته، لكنني لم أستطع أن أحبه، مع أنني حاولت ذلك كثيراً.

سأل طلال: كيف تخلى عنك إذن؟ وكيف وافق على الطلاق؟

أجابت: بالحيلة.. كذبت عليه.. أقنعته أنني أريد أن أزور أمي التي تعيش مع إخوتي بعد زواج أبي من زوجته الجديدة، وإصرارها على الطلاق. وهناك هدّدت إخوتي بالانتحار إذا أعادوني إليه، وكنت جادة في ذلك، وحين أرادوا إجباري قطعت أوردة يدي بشفرة حلاقة، ونزف الدم، فأسعفوني. وساعدوني على التخلص منه بعد أن تخلَّيت له عن كل حقوقي، بما في ذلك الولدين.

ومدت يدها لتُري طلال آثار مكان قطع الأوردة، وكان ذلك واضحاً جداً، فدُهش طلال لذلك، وأحس بإشفاقه عليها. ولأول مرة نظر إليها طويلاً بقوة وتمعُّن، وراح يتأمّلها..

وبعد لحظات من الصمت قال لها: إنك جميلة جداً يا منال..

فقاطعته قائلة: وهذا سبب بؤسي.. كنا أنا وإخوتي أجمل أطفال الحي، وأنظفهم وأكثرهم أناقة، ثلاث بنات واثنان من الصبيان.. كان الشبه لأبينا الوسيم، الذي كان يعمل على خط بيروت دمشق، وكانت ثيابنا كلها من بيروت. وبعد أن فاجأ والدي أمي بزواجه من إحدى زبوناته، أصرّت أمي على الطلاق، أنجبت له زوجته بنتين ـ استغفر الله ـ شديدتي القباحة، وهذا ما جعلها تنقم علينا، وتُزوِّجُنا واحدة تلو الأخرى، بمجرد بلوغنا الثانية عشرة أو الثالثة عشرة.

تناولت منال منديلاً ورقياً ومسحت دمعتين سالتا على خدّيها، ومسحت أنفها، ثم تابعت القول: منذ عام انفصلتْ أختي الكبرى عن زوجها، ولم يمضِ على طلاقها سوى شهرين حين مات مطلِّقها في حادث سير على طريق الكويت.

لم يستطع طلال أن يمنع نفسه من السؤال: ألم تنجبي أطفالاً؟

أجابت: نعم أنجبت اثنين من الصبيان، يبلغ الكبير الآن ثمانية أعوام، والصغير أربعة.

تابع سؤاله: وأين هما الآن؟

أجابت: عند أبيهما..

سأل: كيف استطعت أن تتخلي عنهما؟

أجابت: لم تسمح لي حمواتي الأربع أن أشعر بالأمومة، بمجرد أن يولَد الطفل كنّ يأخذنه مني، لم يسمحن لي حتى بإرضاع أي من الطفلين، أو أن ينام أحدهما بجانبي.. كنت أتعذب في البداية، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، لكنني كنت أزداد كرهاً لزوجي ولأهله..

قال طلال بأسى: هل يمكن لابنة الثالثة والعشرين أن يكون لها كل هذا التاريخ المأساوي؟ وأن تتحمّل كل هذا؟

*         *         *

طلال، ابن السابعة والعشرين على خصام مع إخوته، فحين توفي أبوه، ولدى القيام بإجراءات حصر الإرث، اكتشف بأن إخوته استطاعوا التأثير على أبيهم، وإقناعه بتوزيع جميع ممتلكاته عليهم، حارماً طلال وأختيه من الإرث، دون أن يعلموا. وقد أحكموا الأمور بحيث لم يستطع الحصول على حقه بأي حال من الأحوال، متذرعين بأنهم لم يتعلّموا كما تعلَّم هو في الجامعة، ولا يريدون أن تذهب ثروة الأسرة إلى الأصهرة كما قالوا.

ذهب إلى محكمة التركات واشتكى، لكن القاضي رد الدعوى لسبب عدم وجود تركة أصلاً، فالوالد لم يترك شيئاً باسمه. وذهب إلى المحكمة المدنية طالباً اليمين، لكن المحكمة لم توافق لأن العقود المبرمة بين الأب وأبنائه كانت صحيحة ولا توجب اليمين. حاول مع أصدقاء الأسرة فلم يستجب أحد له، فاقتنع بعدم جدوى محاولاته، وقرر قبول الواقع، لكنه أراد البعد عن إخوته، وسافر إلى لندن للعمل في صحيفة عربية هناك. لكنه لم ينس أختيه اللتين شاركتاه ظلم ذوي القربى من الدرجة الأولى، فكان يهاتفهما بين الحين والآخر، ولم يقطع صلته بهما.

كانت شهادته وجهوده مصدر عيشه، لكنه لم يستطع أن يكوّن رأس المال الذي يجعله ميسوراً، وكل شيء لديه كان بالحساب، إنه “مستور” ينتمي إلى أدنى الطبقة الوسطى، ولا يحتاج أحداً.

*         *         *

كان كل من طلال ومنال يزداد التصاقاً بالآخر مع مرور الأيام، وكان هناك شعور مشترك غير معلن بينهما يجمعهما، خوف كل منهما أن يفقد الآخر، وكان كل منهما يشعر بالضيق إذا مر يوم لم يلتقِ خلاله الآخر، خاصة حين خرج طلال من البانسيون إلى شقة صغيرة.

كانت منال تتمنى أن يفاتحها برغبته في الزواج منها، بل كانت تنتظر تلك اللحظة. وكان طلال يفكر في ذلك، لكنه يعود ويقول في نفسه: “لماذا أعاقب نفسي وأتزوج من مطلقة لها طفلان؟ هل انتهت البنات من الدنيا؟”، ثم يعود ويقول لنفسه: “علامَ هذا الشعور بالتكبّر؟ من أنا أصلاً؟ لست سوى شخص بلا أهل، أي أب مجنون سيوافق على زواجي من ابنته وأنا أشبه بلقيط؟!”.

كان صراعاً عنيفاً ذلك الذي يحتدم في رأسه، بين الحب الذي يحمله في قلبه لمنال، وبين الرجل الشرقي الذي ينكر على المطلقة حقها بفرصة أخرى، وكانت منال تشعر بهذا الصراع، فهو لم يبُح لها بمشاعره، وفي نفس الوقت كان يحنو عليها ويضمها إلى صدره حين تشعر بأي نوع من الضعف، يشحنها بالقوة لمواجهة الحياة بكل فسوتها، وكان يشعر بأنوثتها الطاغية حين يزهر وجهها ويُشرِق بالأمل، وهي ترفعه إليه شاكرة ممتنة.

يوماً بعد يوم أصبحت منال تعتني بطلال، تأتيه كل يوم إلى شقّته، تطهو له، تغسل ثيابه وتكويها، تبدي رأيها بأناقته، وفي المساء تذهب إلى البانسيون الذي تقيم فيه لتنام، وترفض أي مساعدة مالية يعرضها عليها، محتجة دوماً بأنها ليست بحاجة للمال، ولم يكن يسمح لنفسه أن يسألها عن وضعها المادي، لئلا تفسّر ذلك في غبر محلّه. كان قد أعطاها نسخة من مفتاح شقته، واعتاد أن يجدها في البيت حين يعود من عمله، وبعد الظهر كان يستسلم لقيلولة قصيرة، فيما كانت تقوم ببعض أعمال البيت.

سألته ذات يوم: هل أنت متديِّن؟.. مع أنني لم ألاحظ أنك تمارس أي طقس ديني، ولولا اسم أبيك لما عرفت دينك..

أجاب: أنا مؤمن.. لكنني لا أقتنع بالطقوس.. ألم تلاحظي أنني أعرف ربي أكثر من أي رجل دين؟

قالت: نعم.. لاحظت ذلك.. لكنني تعلمت منك شيئاً في غاية الأهمية..

سألها: ما هو؟

أجابت: ألا أسألك.. أن أتركك تتحدث عن نفسك بالقدر الذي تريد..

ودون تفكير تناول كتاباً، وأعطاها إياه بعد أن فتحه على صفحة معيّنة قائلاً:

اقرئي هذه القصيدة، وأسمعيني..

تناولت الكتاب، وكان ديوان شعر لنزار قباني، وراحت تقرأ:

لم أعُدْ داريـاً إلى أين أذهـبْ     كلَّ يـوم أُحـسّ أنّـك أقـربْ

كلَّ يومٍ يصيرُ وجهُكِ جـزءاً     من حياتي ويصبح العمر أخصبْ

قد تسرَّبْتِ في مسامات جلدي     مثلمـا قطـرةُ النّـدى تتسـرَّبْ

اِعتيادي على غيابكِ صعبٌ     واعتيادي على حضورِكِ أصعـبْ

كم أنا.. كم أنـا أحبُّك حتى     أنّ نفسـي مـن نفسـِها تتعجّـَبْ

حين انتهت من قراءة القصيدة، سألها: ما رأيك بها؟

أجابت: أغبط المرأة التي كُتِبتْ لها..

قال: اعتبري أنني أنا من كتبها.. وأنت المرأة التي كُتِبتْ لها… على الرغم من أنني أديب وكاتب، أعلن لك عجزي أمامَها عمّا أريد قوله لك.. زيادة عليها..

بكت منال وهي تقول: أنت تستحق مَن هي أفضل مني..

قاطعها قائلاً: ومَن هي أفضل منك يا منال؟

أجابت: أنا مطلّقة.. ولدي ولدان.. وغير متعلمة.. وقد فرضتُ نفسي عليك طمعاً بشهامتك، وكنتَ كريماً معي.. أخاً حنوناً..

قال: تقصدين.. لا أصلح زوجاً..

قاطعته: بل فارس أحلام، تتمناك أية بنت.. أية أسرة..

قال: ومَن أنا يا منال؟ شخص حرمه أبوه ميراث الأسرة، لا أهل ولا عصبة.. غريب في بلاد غريبة.. مسحتِ لي دموعي العصية التي لم أسمح لأحد أن يراها، حتى أنتِ.. هاتي يديك واجلسي بقربي..

جلست بقربه على طرف السرير، فعانقها ودفن وجهه في صدرها وبكى طويلاً، كانت المرة الأولى التي يبدي ضعفه الإنساني أمام شخص آخر، أفرغ عاطفته كلها على صدر منال، فابتلّ ثوبها بدموعه الغزيرة.

سألته: أين كنت تحتبس كل هذه الدموع يا طلال؟

أجاب: نعم.. احتبستها منذ أن توفيت أمي، حين افتقدت كل روابطي دفعةً واحدة.. حين دفنتُها بيديّ دفنتُ كل أسرتي معها.. كلُّهم بكَوْها بصوت مرتفع إلا أنا، أنا الوحيد الذي بكاها بصمتٍ، لكن بصدق، ولم أزل أبكيها حين نسيها الآخرون، كان قبرها ملاذي حين كشّر الجميع عن أنيابهم، كنت أشكو لها همّي وهي تحت التراب كلما ضاقت بي الدنيا، وكلما لاحظت ضعف أبي أمام طمع إخوتي الذين أعماهم المال، واستكثروا على أُختَيّ المتزوِّجتين حقّهما في ميراث الأسرة، بحجة أن زوجَيْهما سيستفيدان من ثروة أسرتنا!

رفع طلال رأسه واستقام وهو يقول لمنال: هل ترغبين بشراء البذلة البيضاء التي تحلم بها البنت الشرقية عادةً؟

أجابت: لا أريد شيئاً.. لنسجّل في الغد زواجنا شرعياً.. وسأنتقل من البانسيون إلى هنا، وهذا كل شيء، لن يختلف علينا شيء سوى أننا سنصبح زوجين.. مَن سيحتفل بنا ونحن غريبان في بلد غريب؟

*         *         *

أصبح طلال ومنال زوجين، ولكل منهما حق على الآخر، وكان لا بد من البوح بما لم يبُح به خلال فترة الصداقة الطويلة. كانت منال تفكر طويلاً، هل تكون صريحة معه في الإجابة عن أي سؤال يطرحه، بعد أن أصبح ذلك حقاً له؟ هل تكذب حفاظاً عليه وعلى حبه؟ وكان طلال يلاحظ شرود منال، ويحاول تجاهله، هل تسرَّع حين باح لها برغبته بالزواج منها دون أن يخطط لذلك؟ هل كان عليه أن يتدارس الأمر معها، ويسألها عما بقي غامضاً بالنسبة له؟ هل يتجاوز الماضي بسلبياته وإيجابياته وينظر إلى المستقبل؟ لكن.. سيكون لأولاده منها أًخَوانِ من أمهما، ومن أب آخر، كيف سيتعامل الإخوة بعضهم مع البعض الآخر في المستقبل؟ أسئلة كثيرة لم يستطع أن يجيب نفسه عنها، لكنه أخذ قراراً دون العودة لمنال، وهو عدم الإنجاب قبل أن يجد الأجوبة المناسبة لأسئلته الملحّة، لذلك كان لا بد من جلسة مصارحة مع منال، فعاد بذاكرته أياماً قليلة إلى الوراء، وأجرى حساباً بسيطاً، تأكد بعده أن من غير المحتمَل أن تكون منال قد حملت.

جلس طلال على المقعد الطويل ملاصقاً لمنال، واضعاً يده على كتفيها حول عنقها، وقبّل خدها. لاحظت منال أن لدى طلال ما يود قوله لها، فبادرها القول:

حبيبتي منال.. لم نعُد صديقين وحسب، أصبحت لنا مؤسسة تُدعى الزواج، وستكون لنا أسرة، علينا التخطيط لها، لكي تكون ناجحة.

كانت المقدِّمة موفَّقة، وودِّية، اطمأنت منال لها، فتابع القول:

تعالي نتفق على تأجيل موضوع الإنجاب حتى نستقر ونعود إلى الوطن، هذا أولاً، ولتكن علاقتنا بطفليك حسنة منذ البداية، وهذا يحتم علينا أن تكون علاقتنا مع أهل زوجك السابق جيدة، وهذه مسؤوليتي. أما الأمر الثالث، فمن حقي أن أعرف من أين تأتين بمصروفك، وماذا كان مخططك للمستقبل، وبعد ذلك لدي سؤال سأُؤجله لما بعد.

أجابته باختصار شديد: كما تريد.. موافقة على كل ما تقول. أما بالنسبة لمصروفي، فهو من بيع ما لديّ من الذهب، وهذا كل ما أملك..

قال: لم أسألك عن علاقتك بالشخص الذي كنت طلبت مني مساعدتك على التخلص منه، حين تعارفنا.

صمتت منال طويلاً، وكأنها لا تريد أن تجيب، لكنها سألته: أهذا هو السؤال الذي أردت أن تؤجّله؟

أجاب: لا.. بل هناك سؤال آخر..

أحست منال بالدوار، وشعر بها، وقال: يمكنك ألا تجيبي، لن أقتحم عليك حياتك الخاصة، حتى ولو كان ذلك من حقي.. على كل حال، يمكنك أن تجيبي عندما ترين ذلك مناسباً، وما أريده منك الآن تأجيل موضوع الإنجاب.

ثم راح يروي لها بعض النكات لتخرج من حالة الاكتئاب التي بدت عليها، وحين لم يجد استجابة سريعة له منها، حملها وراح يدور بها في أنحاء الشقة، حتى انفجرت بالضحك، وعادت إلى طبيعتها.

*         *         *

مرّ أسبوع كانت منال خلاله شاردة، تعيش صراعاً داخلياً، بينما تجاهل طلال أسئلته التي لم تجبه عنها، حتى كان مساء، استجمعت خلاله قواها، وجلست أمامه قائلة: قلتُ لك إنك تستحق مَن هي أفضل مني، وأردتك أخاً كريماً لن أخون أُخوَّتَه، لكنك أردتني زوجة، فوافقتك.. والآن يمكنك أن تتخلى عني باللفظ وتمزيق العقد الذي لم نسجّلْه بعد في السفارة، وهذا عائد إليك.. لكنني سأجيبك بصراحة، حتى عن الأسئلة التي لم تطرحها عليّ بعد..

توجّس طلال شراً من كلام منال، ووضع يده على خدِّه وهو يستعد للاستماع إليها، فقالت:

بعد طلاقي عشت كأي امرأة مطلقة في هذا المجتمع الظالم، تُحصى عليها كل حركاتها، وبينما أنا في الطريق، استوقفتني امرأة مسنّة، وهي تردّد كلمات تنمّ عن إعجابها بشكلي، طالبة مني أن أدلّها على بيتي لتطلبني عروساً لابنها. رافقت السيدة وجلست معها في كافتيريا، وشرحت لها وضعي، وأبلغتها أنني لا أريد الزواج مرة أخرى، لكنها أقنعتني أن الزواج (سترة) للمرأة، وأن جمالي يتيح لي الزواج من رجل ثري، غير ابنها، وأقنعتني بالسفر إلى هنا للقاء رجل خليجي ثري، قالت إنه أمير، وأعطتني عنواناً لرجل يوصلني إلى هذا الثري، وأقنعتني بأن عليّ أن (أكسب وقتي)، فالجمال والشباب لا يدومان، وعلى المرأة أن تستغلهما لتحسين وضعها. كان هذا الرجل هو الذي استنجدت بك منه، وكان “وكيلاً للأمير”، وقد عرَّفني به ففرد لي المال حين شاهدني، وأبلغني أنهم في الخليج يحبون الشاميات، ويعتقدون بأنهنّ جميعاً يشبهن الممثلة مرح جبر التي يعشقون جمالها، وكان المأذون حاضراً إلى جانبه، يعمل لحسابه فقط، وحدث ما حدث.

سأل: تقصدين أنه تزوج منك؟

أجابت: نعم، وكان المهر أكثر مما تحلم به فتاة عذراء، قبضته سلفاً، وهو ما أصرف منه. كنت أود العودة إلى الوطن، لكن معرفتي وتعلّقي بك جعلاني أؤجل ذلك. أظن أنني أجبتك عن كل تساؤلاتك.. أما وكيل الأمير فقد أخذ يضايقني طالباً الزواج مني، ولم يثنِه عن ذلك إلا تدخلك، فانسحب حين شعر بأنك أقوى منه، بعد أن شاهدك معي.. والكلام لك الآن..

صمت طلال دون أن يعلِّق بحرف واحد، لكنه كان يشعل السيجارة من سابقتها، أربكه حديثها، لم يكن يتوقع ما سمعه، ولم تعُد لديه أسئلة يطرحها، كان كلامها كافياً، صريحاً لأبعد الحدود، وكان عليه أن يعيد حساباته. هل يسامحها؟ على ماذا يسامحها وقد حدث كل ما حدث قبل معرفته بها؟ هل يطلِّقها؟ بماذا آذته لكي يعاقبها بالطلاق؟ وإذا فعل ستجد غيره بسهولة: مال وجمال وصبا.. ثمّ هل يعاقبها على صراحتها؟ كان بإمكانها أن تخفي عنه كل ذلك، ولن يعرفه على الإطلاق إلا منها. وفوق ذلك، كان يحبها بجنون، خاصة بعد أن تزوّجا..

شعرت منال بالراحة بعد أن صارحته بكل شيء، واستعدت لأي ردة فعل قد تصدر عنه.. صحيح أنه مناصر للمرأة، لكنه في النهاية رجل شرقي، يفضل الكذب ألف مرة على الحقيقة العارية، ولو صدقت النساء جميعاً في ماضيهن وحقيقة مشاعرهن لزاد الطلاق عن تسعة وتسعين بالمئة من حالات الزواج في أحسن حالات التفاؤل.

ذهبت منال إلى المطبخ، وحضّرت الشاي كما يحب، وتركته لشروده وارتباكه، وحين عادت احتضنت رأسه الغارق في الذهول، وقالت له: أحبك يا طلال..

خرج طلال عن صمته وهو يتناول فنجان الشاي من يد منال، وكأنه يرد عليها: وأنا أحبك يا منال.

قالت: لم تسألني ماذا سأفعل بالمال.

أجاب: هذا الأمر لا يهمني..

قالت: بل يهمّك.. لن يكون المال أغلى منك، يمكنك أن تحقق به كل ما تريد، حتى ولو طلّقتني.. لنعد إلى الوطن، وهناك ستكون أخاً عزيزاً إذا لم تُرد أن تكون زوجاً سعيداً.. أنا قدرك.. وأنت قدري.. ولن يعرف أحد بسرِّنا..

وبعد أن شربا الشاي، أمسكت بيديه، وسحبته معها إلى السرير بعد أن أطفأت النور.

*         *         *

حاول طلال أن ينسى ما سمعه، أن يخرج من دائرة الرجل الشرقي، ويتابع حياته مع منال كأن شيئاً لم يكن، لكن غصة في حلقه كانت تفسد عليه حياته كلما تذكر كلامها.. فيشعر بنوع من الاكتئاب، لكنه كان ينسى الدنيا بكل ما فيها من عذاب حين يخلو إليها، ويتأمل وجهها الجميل، ويشعر بصدقها. فقد وجد حلاً للمال الذي يشعر بأنه مال حرام، وهو أن يتجاهل الأمر، ولا يسمح لها بصرف قرش واحد منه على بيته، مادام هو المسؤول عن مصروف البيت، فوافقت.

مرت الأيام والأسابيع والأشهر، حتى قرر العودة إلى دمشق، حين علم أن قانوناً جديداً للمطبوعات قد صدر، وأصبح من الممكن الحصول على ترخيص إصدار مجلة خاصة في دمشق، وكانت فرحة منال غامرة وهي تحزم الحقائب، وكان إخوتها بانتظارها، بعد أن أخبرتهم بأنها تزوجت من رجل متعلم وغني.

وفي دمشق، كان الحصول على بيت بإيجار معقول صعباً، فنزلا في فندق بنجمتين، حتى تمكن طلال من استئجار شقة ببدل إيجار معقول، فيما حوّلت منال مالها إلى دمشق، بالملايين، وسارت الأمور عادية ظاهرياً.

كان إخوتها يعجبون لما يلاحظونه من فرق بين ما ترويه لهم عن غنى زوجها، وبين ما يبديه الواقع المتواضع، فبدأ طلال يتململ من جديد، حائراً في كيفية معالجة هذا المال الذي لا يستطيع مقاربته، ولا التعامل به.

لكنه نفّذ كل ما وعد منال به، فقد ذهب إلى بيت زوجها السابق، وتعرّف به، واتفق معه على استضافة الطفلين كل أسبوعين عند أمهما منال، وفاجأها حين اصطحبهما إليها، وأمضيا يوماً كاملاً عندها، وناما على يديها وهو ينظر إليها وإليهما بإعجاب وحنان. وكان يطرد الأفكار الشريرة من رأسه كلما خطرت له على بال، وكم كان ذلك يعذبه!

*         *         *

هطل المطر بشدة في دمشق، نظر إليه من النافذة، كان مقطّب الجبين، فأحسّت منال به، واقتربت منه قائلة:

إلى متى يا طلال؟ لدينا من المال ما يكفي لشراء بيت جميل يكون لنا، سجِّلْه باسمك إن شئت، فالمال يفقد قيمته إذا بقي مالاً..

كَوَتْه كلماتها، فاستدار قائلاً بغضب: تخلَّصي من هذا المال بسرعة، وبالطريقة التي تريدينها.. أحرقيه.. ارمي به في حاوية القمامة.. لا أريده.. لا أريده..

حاولت منال أن تهدّئه حين وجدته غاضباً إلى هذا الحد، لكنه ازداد شراسة وغضباً، وقال بحزم: اختاري بيني وبين هذا المال القذر..

أجابت: لا أستطيع أن أتخلى عن مبلغ كهذا.. أتحسبني مجنونة؟

اشتدت ثورته وغضبه وقال: أنا المجنون إذاً..

وذهب إلى غرفة النوم، وعاد بعقد الزواج الذي لم يسجِّلْه بعد في دوائر الدولة، وأحرقه، وأشعل منه سيجارة وهو يحترق، ثم قال: منال.. أنت طالق.. طالق.. طالق..

وعاد إلى غرفة النوم ليرتدي ثيابه، بينما كانت منال تجهش بالبكاء المر، لكن دموعها لم تنفع، فخرج لا يلوي على شيء، نحو فندق متواضع، تاركاً أغلب ثيابه وكتبه لها، وكوماً من الذكريات.

كانت المرة الأولى والأخيرة التي يثور بها دون أن يضبط أعصابه، لكنه أرضى الرجل الشرقي في داخله، وما هي إلا أيام حتى عاد إلى لندن، هرباً من نفسه ومن منال، ولم يعد يعرف شيئاً عنها.

*         *         *

هاتف منال ذكّره بكل التفاصيل التي عاشها معها، فيما تركته زوجته يخلو إلى نفسه، فقد كانت ذكية جداً، تعرف كيف تتصرف ومتى، وهذا ما أحبه فيها أكثر من أي شيء آخر.

في اليوم التالي، فتح صندوق بريده ليجد رسالة من منال، تروي له فيها ما لم تستطع أن تخبره به على الهاتف، في نقاط مختصرة:

  • – تزوجت بعدك من رجل أعمال تظاهر لي بالآدمية والأخلاق.
  • – أنجبت منه طفلاً واحداً ذكراً أسميته طلال.
  • – أعطيته كل ما لدي من مال ليزيد من رأسماله.
  • – ادعى أنه أفلس، وابتلع المبلغ الذي رفضتَ أنت لمسه.
  • – مات زوجي الأول والد طفليّ اللذين أصبحا في السادسة عشرة والثانية عشرة، وماتت أمه، وأولادي جميعاً يعيشون معي.
  • – أرجوك أن تسامحني يا طلال، فلم أكن أقصد أنني أفضل المال عليك، لقد ذهب المال كما أتى.
  • – أنت الرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي، بعد حبي المراهق لابن لجيران “رأفت”.
  • – لم أختر شيئاً لنفسي في حياتي، وكنت أسير كل عمري كما شاء قدري.

قرأ طلال الرسالة عدة مرات، ثم أشعل عود ثقاب وأحرقها وهو يغني بصوت مرتجف:

بديت القصة تحت الشتي.. بأول شتي حبوا بعضن

وخلصت القصة بتاني شتي.. تحت الشتي تركوا بعضن

حبوا بعضن..

تركوا بعضن..

وما زال يردد الأغنية حتى الآن.

قصة دريد نوايا

Comments are disabled