لقاء في مقهى..

فتح “حازم” عينيه ذات صباح ونظر نحو سقف غرفة نومه:
– صباح ليس ككل الصباحات.. شيء ما مختلف هذا الصباح. ما الذي استحضرها من أعماق الذاكرة؟ قرأتُ “فرويد” و”يونغ”، وقرأت “ابن سيرين” قبل أن أقرأهما دون أن أجد إجابة شافية لتساؤلاتي حول الأحلام. لم أميّز يوماً بين ما هو “رؤيا” وبين ما يمكن اعتباره “أضغاث أحلام”. لكن، أن أحلم بـ”ريتا” التي لم أقابلها أو أسمع أخبارها منذ ثلاثين عاماً، أمر يثير المزيد من التساؤل والفضول لدي.
نهض من سرير وحدته المملَّة، وأخذ حمّامه الصباحي، ثم دخل صالون بيته الصغير ليجد طعام فطوره الذي أعدّته له ابنته “لميس” قبل أن تخرج إلى وظيفتها، وهي كل من تبقّى له من الأسرة الصغيرة. نظر إلى الساعة التي كانت تشير إلى العاشرة والنصف، وتناول القليل من الطعام مع كوب من الشاي الذي مازال يحتفظ بحرارته في “الترمس” وهو يقول: الله يرضى عليك يا لميس.
ارتدى ثيابه وخرج من البيت إلى “نادي الصحافيين” الذي اعتاد ارتيادَه، حيث الهدوء والتكييف، والقليل القليل من الرواد في ذلك الوقت المبكر.
جلس إلى إحدى الطاولات، ودون أن يتحدث إلى أحد، جاء النادل بفنجان القهوة الذي اعتاد بدء جلسته به كل يوم.
كان في النادي بضعة أشخاص يكتبون أو يقرؤون، وإلى إحدى الطاولات كانت تجلس سيدة أميَل إلى السُّمنة تدير ظهرها له. لكن الحلم الذي رآه هذا الصباح مازال يشغله، ويُعيد تفاصيله:
– كنت أجلس على أحد مقاعد الحافلة، وكانت “ريتا” تجلس على المقعد المجاور له على يساري، لكن المقعد الذي تجلس عليه كان متقدماً قليلاً عن مقعدي. مع ذلك، كانت تلتفت بين الحين والآخر وتبتسم لي دون أن تقول كلمة واحدة، لكنني كنت سعيداً بها، ولا أدري الوجهة التي تحملنا هذه الحافلة إليها.
دفع النادل إليه ببعض صحف اليوم، تصفّحها، قلَّبها، ثم تركها على الطاولة، لم يكن مزاجه اليوم متقبلاً قراءة الصحف، فطلب نرجيلة المعسّل، وأخذ يعب دخانها، بينما كانت عيناه مسمّرتين على لوحة جدارية تزيّن أحد الجدران.
فجأة نهضت السيدة الأميل إلى السمنة، ومرَّت بالقرب منه قاصدة حمّام النادي، كانت تبدو عليها مسحة من جمال قديم، وشيء من بقايا الرشاقة، وخلال دقائق عادت مارّة من نفس مسار ذهابها، وحين تجاوزت طاولته، التفتت نحوه، ثم مضت إلى طاولتها، وبعد دقيقتين التفتت نحوه مرة أخرى، وكأن شيئاً ما فيه لفت انتباهها، فأطال النظر إليها وحدَّق بها بفضول، وقال لنفسه:
– هاتان العينان ليستا غريبتين عني..
التفتت “ريتا” نحوه وهي تؤكد فيه جيداً، تريد أن ينتبه إليها، ثم نهضت وتقدَّمت نحوه:
– ألست الأستاذ حازم؟
أجاب مندهشاً: أخشى.. أخشى أن تكوني…
قالت: نعم.. ريتا.. أنا ريتا..
نهض من مقعده مندهشاً، ومدّ يده ليصافحها، لكنها كانت أكثر جرأة منه، فعانقته وقبّلته، فأجلسها قبالته وهو يتأملها، ثم يقول:
– مازلت كما أنت يا ريتا.. كيف لم أعرفك مع أنك..؟..
وصمت دون أن يكمل كلامه، فعاجلته القول: كيف حالك؟ أين أصبحت؟ ماذا تفعل هنا؟ منذ متى أنت هنا؟
كان لا يزال يعيش لحظة العناق، وهو يحدث نفسه:
– لقد تأخر هذا العناق ثلاثين عاماً، كل شيء بوقته حلو، الخطأ في التوقيت فقط، ثلاثون عاماً فقط.
* * *
– من أين نبدأ يا ريتا؟ ماذا فعل بك الزمان؟ لماذا لم أقابلك من قبل ما دمت تترددين إلى هنا؟
أجابت: أنا هنا بالصدفة، تعلم أنني حلبية، وأعيش في حلب، لكنني اليوم جئت إلى دمشق لحضور عرض يشارك فيه ابني ضمن احتفالية دمشق، عاصمة للثقافة العربية، وقد تركته مع زملائه يستعدون ويجرون البروفات.
سأل: ولماذا لم يأت أبوه معك، على الأقل كانت فرصة للتعرف على “غريمي”!
ابتسمت ريتا على الرغم من مأساوية الموقف، وأجابته:
– الله يرحمه، توفي في حادث سير منذ أربع سنوات.
ثم أضافت: لا بد أنك تزوجت وأنجبت، أين زوجتك؟
أجاب: هي الأخرى توفيت منذ عامين..
وتابع بأسى: يبدو أن القدر كتب علينا أن نلتقي أرملين..
وأحس بغصة في حلقه، فيما حاولت ريتا أن تختصر هذا الشعور قائلة:
– نصيب! الدنيا نصيب يا حازم..
سألها: وهل تزوجتْ أخواتك الثلاث؟
أجابت: تزوجت واحدة، ولا تزال الاثنتان الأخريان عازبتين..
قال: ولماذا لم تتزوجا؟
قالت وهي تتنهد: ما تجنّبتُه في لقائي الأخير بك، أوقعَتْنا فيه أختي بوران.
سأل: كيف؟
أجابت: تزوجت من رجل مسلم، راحت خطيفة..
فأكمل ما لم تقله قائلاً: وهذا سبب عدم زواج أختيك الأخريين..
قالت: نعم.. أوقعتنا في ما تحاشيتُ أنا الوقوع فيه، مضحِّية بحبي لك..
* * *
أربعة أعوام أمضتها ريتا في الجامعة زميلة لحازم، في كلية الآداب، وحبيبة غير معلنة، كانت جميع تصرفاته توحي بحبه الشديد لها، لكن هذا الحب بقي صامتاً، لماذا يصارحها به ما دام يلتقيها كل يوم في الكلية؟ كان يخاف أن تنقطع العلاقة بينهما إن هي رفضت حبّه. كان الجميع في “الشلّة” يعرف ذلك، بسبب لهفته عليها، وتأمين كل ما تحتاجه من المحاضرات، وحرصه على البقاء بقربها. أكثر ما كان يمنعه من البوح بحبه لها اختلاف الدين، فهو من أسرة مسلمة، وهي من أسرة مسيحية.
كانت ريتا واحدة من أجمل بنات كلية الآداب في جامعة حلب، تفيض حيوية وعذوبة وجمالاً، تلعب “البينغ بونغ” برشاقة ملفتة، كفراشة في ربيع دائم، وتشارك في اللجنة الثقافية واللجنة الفنية، وجميع الأنشطة الطلابية الأخرى، وتنجح دائماً بمعدلات جيدة. كان أصدقاؤها وزملاؤها متعددي الانتماءات السياسية، منهم البعثي والشيوعي والناصري والقومي الاجتماعي، وكانت أكثر ميلاً إلى الشيوعية، أما هو فكان ليبرالياً يكره القيود التي تفرضها الأحزاب على أعضائها، تحت عنوان الانضباط الحزبي، ولا يطمح لمنصب أو مركز بعد التخرج.
مازال يذكر أول زيارة لبيت ريتا حين كانا طالبين في الجامعة، يومها دعت ريتا كل “شلّتها” إلى البيت للمشاركة في الاستماع إلى العظة التي سيلقيها رجل الدين المسيحي، في أحد أيام الشهر المريمي.
روت ريتا لحازم قصة هذا الشهر بعد دخول الأصدقاء إلى البيت، حيث جلست بقربه، فقد كان الوحيد غير المسيحي بينهم، فاستمع إلى أغرب قصة، وأندر صدفة يعجز عن نسجها خيال أعظم كتّاب الأفلام العربية والهندية.
قالت ريتا: خلال شهر كامل بأيامه الثلاثين نحتفل، نحن الكاثوليك، بالشهر المريمي، كل يوم في أحد البيوت، فنأتي بتمثال السيدة العذراء، ونشعل هذا اللهب في هذا السائل، ثم يأتي رجل دين يروي لنا قصة ذات مغزى أخلاقي مسيحي. وقبل ثلاث سنوات استضفنا السيدة العذراء لأول مرة في بيتنا، فحدثت معجزة تكاد لا تصدّق. كان أبي قد اشترى نصف بطاقة من اليانصيب الوطني، ولدى بث النتائج عبر التلفريون في أحد أيام الثلاثاء، استقرت دواليب الحظ على رقم بطاقة أبي في آخر دوراتها، فربح نصف الجائزة المالية الكبرى، ففرح فرحاً شديداً. في تلك اللحظة تذكرت أمي أن أخي الصغير اشترى نصف بطاقة وطلب منها أن تحفظها له، فأسرعت وأحضرتها، ويا للمفاجأة حين كان نصف بطاقة “طوني” هو النصف الآخر لبطاقة أبي، وبذلك ربحنا الجائزة المالية الكبرى. ومنذ ذلك التاريخ، قررنا أن نحجز كل عام يوماً من الشهر المريمي في بيتنا.
كان حازم يكتب الشعر، وكانت معظم أشعاره تتغنى بعينَي ريتا العسليّتين، ودون أن يشعر كان ينظر إليها كلما وقف في أمسية شعرية، ينشد ما كتبه قلبه العاشق إليها، وكانت تشعر بكل كلمة تخرج من قلبه المحب، فيتلقفها قلبها المكبل بقيود المستحيل. كانت تدرك لا جدوى هذا الحب العبثي النقي الصادق، وهو يصطدم بجدار العصبية الدينية الذي أقامه الإنسان أمام إنسانيته، وفرض العقوبات المؤبّدة على كل من يحاول اختراقه أو تجاهله..
وبعد أن تخرّجا، وأصبح اللقاء بينهما متباعداً، بعد أن عاد حازم إلى دمشق، وبقيت ريتا في حلب، صارحها بحبه لها، ورغبته بالزواج منها، فأجابته متأثرة:
– لم أُخلَق من حجر يا حازم.. كان ذلك واضحاً منذ سنوات.. لا تحسب أن مشاعري تختلف عن مشاعرك ولكن..
غصت ريتا وتوقفت عن الكلام، وكأنها تغالب دمعة بلغت الحجم الحرج، تحاول بكل قوّتها أن تمنعها من السقوط، فساعدها بتحويل نظره عنها، وكأنه الآخر يغالب دمعة أخرى. ثم تماسكت، وتابعت الحديث:
– هل تعلم ماذا سيحصل إذا وافقتك على ما تطرح؟
أجاب: سيمانع الأهل ثم يرضخون للأمر الواقع..
قالت: ليت الأمر كذلك!! سينظر الناس إلى أبي وأمي وأخَوَيَّ نظرة ازدراء.. ولن تتزوج أخواتي الثلاث لأن أختهم تزوجت من رجل غير مسيحي، بل غير كاثوليكي.. وأنا غير قادرة على تحميل أهلي كل هذا العذاب..
عاد كل منهما من اللقاء الأخير مكسور القلب، واحترم حازم تضحية ريتا، ولم يعرف شيئاً عنها بعد ذلك سوى أنها تزوجت من فنان مغمور..
تنقل حازم بين عدة مؤسسات حكومية وخاصة، حتى تقاعد منذ أشهر قليلة، حين بدأ السأم يعشّش في كيانه، وشارك أحد أصدقائه بما جناه من مال، يدر عليه مصروفه البسيط، إضافة إلى معاشه التقاعدي.
سافر ابنه الوحيد إلى بلاد العم سام واستقر هناك، حصل على درجة علمية وعمل في إحدى المؤسسات، وارتضى ذل الغربة والدخل الجيد على الخدمة العسكرية، فبعد أن تعود الحياة هناك، وعرف بوفاة أمه خلال غيابه، لم يجد مبرراً للعودة إلى الوطن والبحث عن عمل معقول، والخدمة العسكرية التي تخلّف عنها، إذ لم يستوعب أن يمتثل لأوامر ضابط صغير تخرّج للتو من الكلية الحربية، وهو خريج جامعة أميركية. فاكتفى ببثّ عواطفه عبر الهاتف وشبكة الإنترنت لأبيه وأخته بين الحين والآخر.
أما لميس فقد عثرت على وظيفة في إحدى المؤسسات الخاصة الكبرى التي يوقّع موظفوها الجدد عقد العمل والاستقالة في نفس الوقت، التفافاً على القوانين الاشتراكية، واستغلالاً لأمثالها من الباحثين عمّن يشتري جهودهم بأفضل الشروط المتاحة، في محاولة لبناء مستقبل غير مؤكد.
* * *
روى حازم الحلم الذي رآه صباحَ اليوم لريتا وسط دهشتها، فعلّقت قائلة:
– الحب الصادق يكمن في الذات طويلاً، لكنه لا يموت يا حازم.. يشهد الله أنني لم أنسَك طوال الأعوام الثلاثين الماضية، بالرغم من محبتي الشديدة لزوجي المرحوم!! وكنت أحدِّثه عنك..
سأل حازم:
– وهل كان يستمع إليك؟
أجابت:
– كان راقياً جداً.. متفهماً لكل شؤون الحياة.. واثقاً من نفسه إلى أبعد الحدود، لم يكن لديه مانع من التعرف إليك..
سألها حازم:
– ولماذا لم تسعي إلى ذلك؟
أجابت بشيء من العتب:
– كان علي أن أقدِّر له تفهُّمه للأمر.. وألا أدعه يفكر لحظة بأنني أحمل لك أكثر من الذكرى الجميلة.. لذلك كان يتضامن معك دون أن يعرفك.. إضافة إلى عامل الجغرافيا الذي ساعدني على قناعتي بما هو ممكن..
وأضافت:
– قرأت له جميع قصائدك التي كتبتَها لي أيام الجامعة.. وهذا ما كان يساهم في تفهُّمه لحقيقة مشاعرك وتضامنه معك.. ربما لأنه كان فناناً هو الآخر..
قال حازم بلهفة:
– أرجوك ريتا.. أريد نسخاً منها.. لقد ضاعت جميعاً مني. أذكر بعض أبياتها فقط..
أجابت ريتا:
– أكثر من ذلك.. كانت تعجبه قصيدة قام بتلحينها، وكان يغنيها في سهراتنا العائلية مع الأصدقاء.
سأل حازم:
– أي قصيدة؟
وراحت تنشد:
(تألَّقي واتَّقدي..
وعيِّدي بعمرك المغرِّدِ
يا زهرةً حملَ النسيمُ عبيرها
ومضى يروحُ على القلوب ويغتدي
أمشي إليكِ وأنتِ منّي خطوةً
يا طولَ دربي!.. يا لَرهبةِ مقصدي!
إنْ بُحتُ ينعقدُ اللسانُ فأرعوي
وألوذُ محتمياً بظلِّ تردُّدي
وأخافُ بُعدَكِ إن شرحتُ مشاعري
وفضحتُ سرَّ تلهُّفي وتوَدُّدي
فمتى يحينُ الوعدُ يا رجْعَ الصدى
وإلى متى أُخفي جموحَ توقُّدي؟)
عشرات السنين تكوّمت في رأس حازم وهو يستمع إلى ريتا تلقي قصيدة كتبها منذ أزل، بصوتها الدافئ الرخيم الذي عشقه، فأمسك جبينه بيده محاولاً إخفاء دمعة غلَبتْه وسقطت على زجاج نظّارته، فاضطر لرفعها عن عينيه ومسحها، فقالت ريتا معلّقةً:
– لا تزال عاطفياً شرقياً دافئاً يا حازم! أما تزال تكتب الشعر؟
أجاب بعد لحظة صمت وتأمّل:
– بماذا أجيبك يا ريتا؟ لم أكتب لأحد بعدك سوى قصيدة واحدة لزوجتي قبل الزواج.. رحمها الله، كانت غيورة ودافئة، ولم أكن أريد أن أثير غيرتها، فاعتزلت كتابة الشعر، وشغلتني الحياة بمتطلباتها..
نظر طويلاً إلى عينيها الذكيتين، وهي لا تزال صامتة تصغي، ثم أضاف:
– عبثاً أن يُكتَب الشِّعر ولا يقرأه الآخرون.. فالشاعر بحاجة إلى مساحة واسعة من الحرية.. وربما كان الزواج عائقاً أمامه.. ما أصعب أن يُضطرَّ الشاعر لشرح مشاعره بالعامية! في هذه الحال يكون الاعتزال أفضل الحلول.. خصوصاً حين يغيب مصدر الإلهام.. وينشغل الشاعر بشؤون الحياة اليومية.
أرادت ريتا أن تغير الحديث، فقالت له:
– دعنا من الماضي.. لنتحدث عن المستقبل.. ما هو برنامجك في هذه الأيام؟
أجاب:
– يبدو أنني سأعود لكتابة الشعر.. لكن.. الموهبة أيضاً تترهل مع الزمن! لا أدري إن كنت لا أزال قادراً على ذلك. أكاد أومن بأن القدر يرسم لنا حياتنا بتفاصيلها.. ربما!!
قالت ريتا:
– علينا أن نبدأ دائماً.. في كل لحظة نملك ما نبدأ به.. المهم ألا نستسلم..
هز حازم برأسه موافقاً ودعاها إلى تناول الغداء معه، لكنها أبلغته أنها وعدت ابنها في النادي بعد أن ينهي تدريباته، لتناول طعام الغداء، فوجدها فرصة للتعرف على الشاب الصغير، واستبشر خيراً.. بينما أخذ يتحدث كل منهما عن عمله..
* * *
مضى الوقت سريعاً.. وحضر الشاب الصغير وشاهد أمه تجالس رجلاً غريباً، فتقدم نحوهما عابس الوجه، فقدمت ريتا ابنها لحازم، وعرّفت ابنها به على أنه أحد زملائها في الدراسة. لكن الشاب بدا غير متقبِّل له، ودون أن يجلس دعا أمه إلى الانصراف معه لأنهما مدعوان إلى الغداء في مكان آخر. فنهضت ريتا معتذرة، وصافحت حازم، تاركة إياه وحيداً من جديد.
كان حازم مذهولاً بسرعة ما حدث، وانهارت كل أمانيه التي اعتقد بأنها أصبحت في متناول اليد، أن تعود ريتا مجرد صديقة ليس أكثر. لكنها ذهبت ولم تترك حتى رقم هاتفها، وعجِب لموقف الشاب الصغير الذي بدا رافضاً له بشكل مباشر ودون سبب، وراح يسأل نفسه:
– هل هذا حلم آخر؟.. كأنها لم تكن! حضرتْ فجأة وذهبتْ فجأة كأن شيئاً لم يكن!
أخذ يتلمس نفسه غير متأكد إن كان ما حدث حقيقة أم خيالاً، حتى أنه كاد يسأل النادل إن كان قد رأى سيدة تجلس إلى طاولته، خاصة حين شاهد كوباً واحداً فارغاً من القهوة عليها، ومجموعة من أعقاب السجائر في منفضة بجانب فنجان القهوة، وحين أكّد في أعقاب السجائر تلك، وجد واحداً منها مصبوغاً بآثار من أحمر الشفاه، وكان هذا دليلاً كافياً على حقيقة ما حدث، فالتقطه من المنفضة، ولفّه بمنديل ورقي، ووضعه في جيبه.
حين عاد وجد لميس وقد سبقته إلى البيت وأحضرت بعض الطعام الجاهز وهي عائدة، فأنْسَتْه رؤيتُه لها بعضَ أحزانه الجديدة، وما إن تناولا طعام الغداء حتى أخبرته بأن زميلاً لها سيزوره مساء اليوم في البيت.
امتزج الفرح بالحزن في أعماق حازم، تساويا ولم يعد قادراً على التمييز بينهما، لا يدري إن كان حزيناً أم فرحاً.. حتى لميس ستغادره في يوم ما، ربما كان أقرب مما يتصور، وهذا حقها غير القابل للنقاش، ولم يكن أمامه إلا أن يستسلم للأمر الواقع.
ذهب إلى فراشه مستسلماً لقيلولة ظنّها قصيرة، ولم يَصْحُ إلا حين أيقظته لميس تخبره بأن الخطيب أصبح في صالون البيت، فنهض ليجد نفسه متجدداً، يستذكر ما قالته ريتا له قبل ساعات قليلة:
– لنبدأ.. في كل لحظة نملك أن نبدأ.. المهم ألا نستسلم..
كانت الابتسامة تعلو وجهه وهو يستقبل الخاطب الذي كانت نظراته تعبر عما يحمله في قلبه المحب للميس، وشعر بنوع من الاطمئنان والرضا، واعداً نفسه بأن يعود شاعراً، فليبدأ منذ الآن، مادامت الشمس تشرق كل يوم.. وراح يحدث نفسه:
– كان لقاءً في مقهى.. وكفى..

قصة وشعر: دريد نوايا

Comments are disabled