أيتها الملكة الشاعرة.. أعيدي لي دفتر أشعاري

بعد 31 عاماً من استعارته؟؟

في صيف العام 1976 كنت في القاهرة، نزيلَ فندق متوسط الحال، أجري بحثاً علمياً على بعض الأحياء المائية.

ذات مساء، وبينما كنت أدوِّن بعض المعلومات في غرفتي في الفندق، فاتحاً الباب، أحسست بنسمة رقيقة تدخل من الباب إلى يساري، نظرتُ فرأيت فتاة فائقة الجمال، تحاول فتح باب الغرفة المجاورة، المتعامد مع باب غرفتي. قالت بلهجة لبنانية: مساء الخير، فرددت السلام، ودخلتْ غرفتها. بعد قليل، خرجت لتستعير مني بعض الصحف اليومية التي كنت مواظباً على قراءتها، سائلة عن آخر أخبار لبنان.

كانت الحرب الأهلية اللبنانية قد اشتعلت على أشدها، وبدأت الميليشيات تفرض وجودها، وعمليات الفرز الطائفي تتضح يوماً بعد يوم. وكانت الجامعة العربية في بيروت قررت إجراء الامتحانات في القاهرة لطلابها بسبب الأوضاع الأمنية المتردية في بيروت.

أخذتِْ الصحف ودخلتْ غرفتها، ولم تخرج ثانية في تلك الليلة، لكنها أعادت الصحف القديمة في مساء اليوم التالي، لتأخذ صحف اليوم. وما كادت تدخل غرفتها حتى خرجت ثانية لتقول لي: “فسدوا لي عليك”. قلت دون أن أعلم شيئاً عن (الإفسادية): “لا تصدقي، إنها وشاية”. قالت: “قالوا لي إنك شاعر”، أجبت: “أعترف بهذه التهمة”، قالت: “وأنا أيضاً أكتب الشعر”.

كان من واجبي أن أدعوها للجلوس، فجلست طالبة مني أن أُسمعَها شيئاً مما كتبتُ. فتحت دفتري واخترت قصيدة قرأتُها لها، فأبدت إعجابها بما سمعتْ. قلت: “أسمعينا شيئاً من أشعارك”، فألقت شيئاً مما تحفظ، وكان علي أن أبدي إعجابي بما سمعت، مع أن إعجابي كان بالإلقاء وبالجمال أكثر من القصيدة.

في تلك الأثناء حضر مدير الفندق، فدعوته للجلوس، وأخذ يستمع، مني ومنها، ثم قال: “لماذا لا تنزلان إلى الصالون ليستمع باقي النزلاء؟”. قلت: “أنا موافق”، ووافقت هي الأخرى، فدخلتْ غرفتها لتأتي برزمة أوراق، وحملتُ دفتري، واتجهنا نحو صالون الفندق.

كانت أطول أمسية شعرية في حياتي، استمرت حتى الخامسة صباحاً، ختمتُها بقصيدة كتبتها لها ليلة شاهدتها أول مرة، قدمتُ لها نسخة منها ونحن عائدان كل إلى غرفته. لكن ما فاجأني أنه كان على شاعرتي الجميلة أن تتقدم لامتحانها في التاسعة صباحاً، ولم أكن أعلم ذلك حتى أخبرتني في نهاية الأمسية التاريخية!!

كنت متعوداً، كما هي حالي الآن، على السهر حتى الصباح، والنوم إلى ما بعد الظهر، فلم يتغير علي شيء، لكن الشاعرة الجميلة ستتقدم للامتحان بعد أقل من أربع ساعات.

دخلت غرفتي ونمت، وبعد الظهر استيقظت، وكنت أود أن أعرف كيف كتبت في الامتحان، والحقيقة أنني كنت أنتظرها، وكأنني على موعد معها.

مرت الساعات، صار الوقت مساء، دخل الليل، تقدم الليل، انتصف الليل، أقبل الفجر، والشاعرة الجميلة لم تأت. سألني مدير الفندق عنها فأجبته: “لا أعرف شيئاً عنها”. مضى اليوم التالي ولم تعد، لكن مدير الفندق أخلى طرفه بإخراجها من سجلات فندقه. أما أنا، فقد مارست شرقيتي، ورحت أفكر بأسوأ ما يمكن أن يفكر به رجل في هذا المجتمع. كانت الوسيلة الوحيدة التي أستطيع التعبير من خلالها عن أي شيء كتابة الشعر، فكتبت لها قصيدة جديدة أتهمها بها بأشد التهم، وأقذرها.

في اليوم الثالث، بعد ظهر ذلك اليوم، عادت الشاعرة، وما إن رأيتها قلت لها بحزم: “أين أنت؟ أما كان من الأفضل أن تخبرينا بمكان وجودك؟”. لم تُجبْ، لكنها أرتني ساعديها وقد ازرقت بقعة في كل ساعد، فقد أغمي عليها في الامتحان، وأُسعِفتْ إلى أحد المشافي، وعاشت على السيروم، والبقع الزرقاء شاهدة.

لمتُ نفسي على تسرعي في الحكم عليها، واتهامها بأبشع الاتهامات، لكنني كتبت القصيدة، وأصبح التعامل معها كلوحة، وليس كلائحة اتهام.

أخذت الشاعرة الجميلة أشياءها، وهي تستعد للرحيل، حيث الصديقات أقدر مني على الاعتناء بها، ودلتني على عنوانها في بيت الطالبات. ترددت: هل أعطيها القصيدة؟ ماذا ستقول عندما تقرؤها؟ وتغلبت عندي فكرة إعطائها نسخة منها، فقلت لها: “أرجوك ألا تؤاخذيني، لكنني كرجل مازال يحمل بعض العقد الشرقية جعلني أعالج الأمر بهذه الطريقة، لا تقرئيها حتى تستقري وتستريحي”.

أخذتِ القصيدة وغادرتْ إلى حيث بيت الطالبات.

بعد ظهر اليوم التالي، أيقظني أحد العاملين في الفندق، ليسألني النزول إلى الصالون، سألته عن الضيف الذي ينتظرني فأجاب: “الشاعرة الجميلة”. قلت: “دعها تأتي إلى هنا”، فاعتذر لأنها ليست نزيلة في الفندق، وبأن المدير سمح لنا باللقاء من قبل تجاوزاً بسبب حسن سلوكي ومعرفته بي. لم أكد أكمل كلامي، حتى كانت الشاعرة تدخل غرفتي، دخلتُ الحمام أغسل وجهي لأصحو، وطلبت القهوة سريعاً، بينما جلست هي على طرف السرير. جلستُ أمامها على الكرسي، فطلبت مني أن أسمِعها الشعر، فأخذت الدفتر ورحت أقرأ لها، وكانت تطلب مني قصائد معينة، كانت قد سمعتها.

شربنا القهوة، ودعوتها للغداء، فاعتذرت اليوم، ووعدتني غداً، ثم همّت بالانصراف، وعند الباب طلبت مني أن أعيرها دفتر أشعاري فلم أتردد، وأخذتْ كتاباً آخر يتحدث عن سايكولوجيا رواد الفضاء، وقلت لها مازحا: “خذي ما تشائين، حتى أنا مستعد للذهاب معك”، ضحكنا، وغادرت المكان.

انتظرتها في اليوم التالي، وفي الأيام اللاحقة فلم تعد، سألت عنها في بيت الطالبات فأخبروني بأنها غادرت. عندئذ أدركت أنها ربما فعلت ذلك انتقاماً مني بسبب القصيدة الأخيرة، وكعادتي، أفرغ جعبتي في كتابة الشعر، فكتبت لها قصيدة مطلعها “أعيديهِ.. عصارةُ غربتي أودعتُها فيهِ”.

مضت الأيام والسنوات، سبع من السنوات مرت دون أن أعلم عنها شيئاً، لكن، وبينما كنت في إحدى دور النشر اللبنانية التي تعاملت معها، أتصفح إحدى المجلات، وإذا بشاعرتي الجميلة، وقد انتُخِبت ملكة للجمال. نعم إنها هي، اسمها، صورتها، الملكة الشاعرة، كيف أستطيع الوصول إليها دون أن أسبب لها أي إحراج؟ وعدتني إحدى الصديقات بأن تجمعني بها، وأخلفتْ، ووعدتني صديقة أخرى وأخلفتْ، وحين انتقلت إلى قبرص، وعدتني صديقة ثالثة بذلك، وذكرت لي بأنها تأتي كثيراً إلى ليماسول، لكن الأمر لم يتم.

مضى الآن على هذه الحادثة، منذ أن أخذت الدفتر، واحد وثلاثون عاماً، وقد بحثت عنها على الإنترنت، ووجدتها، لكنني لن أحرجها، على الأقل أمام زوجها. هذا الدفتر ليس الوحيد الذي فقدته في حلّي وترحالي، فقدتُ الكثير غيره، ولا أحتفظ بأكثر من عشرة بالمئة من أرشيفي في الكتابة، على اختلاف مدارسها ومواضيعها.

أيتها الملكة الشاعرة.. إذا قرأتِ هذه السطور بمحض الصدفة، أخبريني بمصير دفتري، إذا لم يكن على قيد الحياة لن أحزن عليه، وإذا رددته لي، سأكون ممتناً جداً لك، ولكن لا تحرجي نفسك كثيراً، فقد مضى زمن طويل على فقدانه. وإذا نشرتِِ بعض قصائدي منه على أنها قصائدك، فسوف أقدمها هدية عن طيب خاطر. كل ما أريده أن أعرف مصيره!!!

دريد نوايا

Comments are disabled