اللغة العربية.. عشقي الأزلي الأبدي

أحببت اللغة العربية منذ الصغر، واكتشفت مكامن الجمال فيها دون أن أسأل أحداً، فقبل أن أصل إلى الشهادة الابتدائية، صدر قرار بإلغائها. لم أستطع أن أفهم معنى كلمة إلغاء، لكنني قرأتها في الجريدة، واستمعت إلى الكبار وهم يرددونها. كان كافياً أن يخبر أحدهم الآخر بأن الشهادة الابتدائية أُلغيت، ولا أحد يشرح معنى الكلمة، وماذا قصدوا بها. فقررت أن أخترع موقفاً أخبر به أمي عن شيء ما عندما أصل إلى الشهادة الابتدائية، فقالت لي: لكنهم ألغوها، عندئذ فهمت معنى كلمة الإلغاء، ليس هذا فقط، بل دخلت الكلمة مفرداتي، وصرت أستعملها. كنت أغني أحرف الجر، كما تعلمتها من الأستاذ، واستوعبت الأفعال، لكنني لم أدرك لماذا يقولون (فعل ماض)، وكان عليهم أن يقولوا (فعل ماضي). هذه تأخرت حتى عرفتها، ولسنوات ظل التساؤل يشغلني، حتى درست الاسم المنقوص. ومع التقدم في الدراسة والعلم، كنت أتساءل لماذا تُجرُّ كلمة (رئيس) في الأخبار عندما يقولون (سيادة الفريق أمين الحافظ، رئيسِ مجلس الرئاسة)، ويرفعونها عندما يقولون (أصدر الفريق أمين الحافظ، رئيسُ مجلس الرئاسة)، ومنها عرفت البدل، وكانت جميع دروس اللغة العربية ترسخ في ذهني بمجرد معرفتها.

آخر خطأ نحوي ارتكبته، كان في مادة الإنشاء، كنت يومها في الصف الأول الثانوي (العاشر)، وكان في العدد، فبدلاً من أن أقول (ثلاثة) قلت (ثلاث)، وقام الأستاذ بتصحيحها على ورقة الاختبار. في الصف العاشر كان أستاذ اللغة العربية الأديب الراحل نصوح الفاخوري، ولي قصة معه. فقد اختارني مرة لتسميع قصيدة من كتاب القراءة، لا أدري لماذا قلت له: لا أحفظها، فغضب مني، ووضع لي علامة الصفر. في الدرس التالي، كان اسمي أول الأسماء للتسميع، فأعدت الموقف: لا أحفظها، ووضع لي صفراً آخر. أصبح الأمر نوعاً من نكاية، وصار يطلب مني نفس الطلب كل درس، وأجيبه بنفس الجواب. لكن الأمر لم يعد يحتمل، فقد كثرت الأصفار، والرسوب في مادة اللغة العربية يعني الرسوب في الصف.

كنت أكتب الشعر، وكان علي أن أثبت للأستاذ أنني شاعر، ولكن كيف؟ هيأت قصيدة، وشجعت نفسي عند نهاية الدرس، وتقدمت من الأستاذ قائلاً: هل تسمح بتصحيح هذه القصيدة لي، أخذ الورقة مني بعصبية، ووضعها في جيبه وانصرف. في الدرس التالي بادرنا القول: (وينه نوايا؟) وقفت بمنتهى الأدب، فسألني من الذي كتب القصيدة؟ قلت: أنا أستاذ، قال: وتدعي أيضاً؟ قلت له: أنا لا أكذب يا أستاذ، أنا من كتب القصيدة. وحدثت ضجة في الصف، قال له الزملاء: إنه يكتب الشعر، ولا يكذب. قال: القصيدة جيدة، ولا أخطاء فيها، كيف تعلمت العروض (كنا لم ندرس العروض بعد، وفي العام التالي لم يكن في برنامجنا، في الفرع العلمي، أي درس عن علم العروض)، قلت له: وحدي. فتح دفتره وعدَّ الأصفار التي سجلها علي فكانت تسعة أصفار، محاها جميعاً، ومن يومها أصبح يوليني اهتماماً واضحا.

في الصف الحادي عشر، وفِّقنا بأستاذ راقٍ، هو الأستاذ قصي الأتاسي، كان أيضاً أديباً ومترجما، لكن الملفت فيه كان معاملتنا وكأننا طلاب جامعة، لم يكن يعاقب أي تلميذ قصّر في كتابة واجب، ولا طالب نسي كتابه أو دفتره، فزادني حباً باللغة العربية، أما في الثاني عشر (البكالوريا)، فقد كان أستاذنا الأديب والفنان المسرحي المبدع فرحان بلبل. كان الأستاذ فرحان صديقاً لتلامذته، يعاملنا وكأننا زملاء له، وحين قدمت له قصيدة شجعني، كما كان يشجع أي موهبة يراها واعدة. ومازال بذات الطبع حتى خرّج من طلابه فنانين ومخرجين وكتّاباً، وكانت فرقته معروفة بأدائها الجاد، وإبداعها. وفي امتحان الثانوية استشهدت بأبيات لي من الشعر، بالطبع دون ذكر اسمي.

في الجامعة، كان بعض أساتذتي يعطيني (النوتة) قبل طبعها لأدققها لغوياً، وأصبحت معروفاً كشاعر على مستوى الجامعة (جامعة حلب) تلك الأيام الغالية. وكنت أحيي الأمسيات الشعرية، وأُدعى لأمسيات شعرية، يحضرها أساتذتي، إضافة إلى الزملاء والزميلات، ومن لا يعرفني، كان يسمع باسمي.

في العام 1981، أصدر الفقيد الغالي وفارس الأصدقاء، المرحوم حسين الحلاق (مدير دار الكلمة في بيروت) رواية للأديب الصديق خيري الذهبي، عنوانها (ليالي عربية)، كتبت الصحف عن الرواية، وكان كل كاتب يضع حاشية مفادها (سُئل الناشر عن الخطأ في عنوان الرواية فأجاب بأنه أحلى، وكان المقصود كلمة (ليالٍ) بدلاً من (ليالي). وذات مساء زرت أحد الأصدقاء في حوالى الحادية عشرة ليلاً، فوجدت عنده عدد من الأصدقاء من خريجي قسم اللغة العربية، وأستاذ معروف أعتذر عن ذكر اسمه، وطبيبة أديبة. وكان أبو علي (حسين حلاق)، رحمه الله حاضراً أيضاً. عاد الأصدقاء يلومون حسين على “الخطأ” في العنوان، وكان الجميع قد ملؤوا أدمغتهم بالكحول. تدخلت في الأمر وقلت: لكن العنوان صحيح، وليس فيه خطأ! التفت أستاذنا الكبير إلي وشرح لي الحالات الأربع (المنقوص والمقصور..)، وأنا أستمع حتى انتهى، قلت: لكن العنوان صحيح، فأجاب بعصبية: ألم تقرأ: “وليالٍ عشر” في القرآن، قلت بلى قرأت، لكن العنوان صحيح. قال أحد الأصدقاء للأستاذ: اسمع له، إنه لا يقول شيئاً دون معرفة. فزادت عصبيته وتابع: منذ ثلاثين عاماً ندرِّس اللغة العربية، وبعد كل هذا يأتي مهندس زراعي ليعلمنا. حافظت على توازني، وسألت الصديق المضيف: هل لديك قاموس؟ قال: نعم، لدي المنجد. وكم كانت المفاجأة للجميع عندما أخرجنا الكلمة من المنجد (ليل، وليلة، تجمع على ليالي “بزيادة الياء من غير قياس”)، كانت شاذة، وأنا لا أدري من أين علقت في ذهني خلال مشواري الطويل مع اللغة العربية. التفت أستاذنا إلي وقال: أسكر منذ عشر ساعات، لقد طارت السكرة من رأسي. أما أبو علي، رحمة الله عليه، فقد اتهمهم بالجهل، وراح يرد الصاع صاعين، بمزيج من الجد والمزاح.

ومازالت أذني تلتقط الخطأ النحوي عن بُعد، وما أكثره في وسائل إعلامنا، خاصة الإعلام المرئي!!

Comments are disabled