قصة نشر القصيدة الأولى

أصبحنا في الصف الأول الثانوي (العاشر)، أصبحت التجربة أكثر نضجاً، صار من الممكن أن نُطلع الشعراء الكبار على الإنتاج، على الرغم من تخوفنا. أحد هؤلاء الشعراء المقربين الشاعر مصطفى خضر، شقيق واحد من “الشلة”، يكبرنا بحوالى خمس من السنوات، لكنه كان ينشر في مجلة الآداب اللبنانية، وكان هذا حلماً بعيد المنال بالنسبة لنا. شجعني عدنان (أخو مصطفى) على تقديم قصيدة له، وكان ذلك، ورحت أنتظر الرد على أحر من الجمر كما يقولون. وجاء الرد في اليوم التالي:

“بطاقتك تبشر بالعطاء، القصيدة من البحر المتقارب، ليست هناك أخطاء نحوية أو عروضية، اقرأ المزيد من الشعر”.

كان كافياً أن يقول لي إن قصيدتي خالية من الأخطاء النحوية والعروضية، أحسست بأنني أمشي على أرض صلبة، وبأنني مشروع شاعر. التقيت بأبي ميلاد “الشاعر مصطفى خضر” منذ شهور، قبَّلته بحرارة، وقبّلني بحرارة، قلت له: أنت أستاذي الأول في الشعر، وكنا سعيدين في اللقاء.

وهكذا، كانت الخطوة التالية أن أُقدم على تجربة النشر في الصحف المحلية، وأصدقائي من “شلة الشعراء الصغار” يشجعونني. لم يكن الأمر صعباً، فقد كانت جريدة “الينبوع” تضع صندوق بريد خشبياً خارج المكتب، في الشارع، ولن يكون الأمر مخجلاً لأنني لن أقابل أحداً، ويمكن لي أن أضع القصيدة في مغلف، ثم أضعها في صندوق البريد، وهكذا كان.

لم يمر أكثر من أربعة أيام حتى صدر العدد الجديد من “الينبوع”، ويا للمفاجأة السعيدة! كانت القصيدة منشورة في هذا العدد، وابن الستة عشر عاماً ينشر الشعر للمرة الأولى، والناس تقرأ القصيدة، لكنني كنت خجلاً منها لأنها كانت غزلية، أكتب عن الشفاه، ولا أعرف عنها إلا ما يمكن لمراهق أن يتخيل، وكان الخجل أمام الأهل أكثر، لكن ما العمل؟ القصيدة نُشرت، وقرأها الأهل دون تعليق على مضمونها.

القصيدة تصبح أغنية

مضى عام على نشر القصيدة دون أي محاولة للنشر مرة ثانية. لكن، وفي أحد الأيام، كانت أختي الصغرى تغريد في الصف السادس الابتدائي (هي الآن مهندسة كبيرة)، وكانت مدرستها تحضر للاحتفال بأحد الأعياد الوطنية، وكانت أختي بين التلميذات اللاتي سيؤدين نشاطاً في الاحتفال. وفوق ذلك، كانت عمتي معلمة في نفس المدرسة، وبين أهلي والمديرة علاقة صداقة عائلية. تأخر أستاذ الموسيقى الذي سيقوم بتدريب التلميذات، وكان من أساتذة الموسيقا المشهورين في حمص (المرحوم سميح البنك). حين جاء متأخراً عاتبته المديرة على تأخره، فشكا لها من الصعوبة التي يعانيها في تلحين قصيدة جميلة لشاعر اسمه دريد نوايا. صمتت المديرة قليلاً ثم سألته:

“هل تعرفه؟”

قال: “لا.. ليتني أستطيع التعرف عليه”.

قالت: “أنا أعرف شاباً بهذا الاسم، لكنك تقول لي إنه شاعر! الذي أعرفه طالب في الثانوية، وعمته إحدى معلمات المدرسة”

ثم استدركت: “أخته هنا مع التلميذات اللاتي يتدربن”.

وأرسلت إحدى التلميذات تنادي على أختي.

سأل الأستاذ سميح أختي: “هل يكتب أخوك الشعر؟”

أجابته: “وينشر أيضاً في الصحف”.

فرجاها أن تخبرني برغبته في التعرف إلي، ودلها على محل له على طريق الشام. كنت بالطبع أعرف المحل، فذهبت إليه لألبي دعوته، وحين دخلت، كررت اسمي ثلاث مرات حتى سمعني من شدة خجلي وأنا أقف أمام أستاذ كبير. ودعاني إلى الجلوس، ثم راح يردد لي القصيدة، كان يحفظها (أنا الآن لا أذكر منها سوى بيت واحد يقول: “يا حبذا لو أجتني غسق الدجى ليروق كأسي ولينوّر عالمي”). بعد قليل دخل أستاذ الجغرافيا، ثم تبعه أستاذ الرياضيات، وأنا بين هؤلاء الفطاحل، وكان يعرِّفني بهم ويعرفهم بي على أنني “الأستاذ دريد”، وكنت أسمع للمرة الأولى لقب الأستاذ مقترناً باسمي.

بعد ذلك صرت أتردد على محله، ومرة أو أكثر على بيته، وكانت بناته مشهورات بجمالهن في المدينة، وكان أصدقائي يغبطونني على علاقتي به، والحقيقة أنني أصبحت أشعر بأنني بدأت أتميز. كان الأستاذ سميح البنك يحلم، ويجعلني أحلم معه، فيقول إن نجاة الصغيرة ستغني قصيدتي ذات يوم، لكن العمر لم يمهله كثيراً.

تسجيل الأغنية

قرر الأستاذ سميح أن يسجل الأغنية بصوته على العود، وكان موعد بيننا في بيتنا هذه المرة، دعوت الأصدقاء إلى البيت، وحضر الجميع. كان لدينا مسجلة فيليبس ذات البكرات الكبيرة. أخذ الأستاذ سميح يجرب التسجيل، نبعد الميكروفون قليلاً، ثم نقدمه حتى رضي على مكانه. وبدأ بالتقاسيم، ثم بمعزوفة من تأليفه. قدمت له الزهورات لكي يجلي صوته، وحين استعد للغناء والتسجيل توقفت المسجلة عن العمل. ولم أستطع تشغيلها بشكل من الأشكال، فأسمعنا الأستاذ القصيدة دون تسجيل، ولم نكرر التجربة ثانيةً.

في لقاءات أخرى أخذ الأستاذ سميح قصيدة أخرى مني ولحنها، في العام 1967، لا أذكر منها شيئاً على الإطلاق، وبسبب دخولي الجامعة في نفس العام، وسفري بين حمص وحلب، تباعدت اللقاءات حتى علمت بوفاته رحمه الله، وهنا كانت القطيعة النهائية.

Comments are disabled