كيف درست العروض؟

 لم أتعود طوال عمري أن أسأل أحداً أي سؤال، ونادراً ما كنت أسأل حتى أساتذتي، دائماً كنت أبحث عن المعلومة بنفسي، وبوسائلي الخاصة.

بدأ اهتمامي بالشعر مبكراً، وأول محاولة كانت وأنا في الحادية عشرة من العمر، في العام 1960، حين احتجزت باخرة مصرية في ميناء نيويورك، إذا لم تخني الذاكرة، وتدعى “كليوباترا”، ثم كانت هناك محاولات أخرى. وعندما أتممت الصف الثامن (الثاني المتوسط)، ضاقت بي الدنيا لأنني لم أستطع أن أكتشف أوزان الشعر، على الرغم من محاولاتي الكثيرة، فقد كنت أعد أحرف الشطر، ثم أعد أحرف الشطر الذي يليه، وأكتشف أن العددين غير متساويين، وقررت أن أصعد السقيفة للبحث في كتب إخوتي الكبار، حتى عثرت على كتاب مدرسي عنوانه “العَروض والنحو”.

لم أكن حتى تلك اللحظة أعرف معنى كلمة “عروض”، لكنني قررت تصفح ما في داخل الكتب. كانت فرحتي غامرة عندما شاهدت أبيات الشعر مقطعة، وعرفت أن معنى العروض أوزان الشعر. كان الكتاب كتابَ أختي الكبرى، طيب الله ثراها، والتي كانت الأولى على سوريا في امتحان البكالوريا في العام 1956، ودرست على حساب الدولة الأدب الإنكليزي، ثم دبلوم التربية. ورحت أقرأ الكتاب بشغف، وأدركت عندئذ لماذا لا يتساوى عدد الأحرف في أبيات القصيدة، وبأن السر في السكون والحركة، ورحت أدرس بحور أبي الخليل حتى أنهيت الجزء المخصص للعروض. لكن المحاولة الشاقة كانت عندما جلست أطبق ما درست. وقع اختياري على البحر البسيط. ورحت أنحت وأنحت حتى تمكنت من كتابة بيتين لا أزال أذكرهما:

جوعٌ غريـبٌ في التَّركيـبِ أحمِلـهُ     ينسـل في جسدي مسـتهلكاً عصبي

جوعٌ غريبٌ ما أحسستُ قبلُ بِه     قالوا ليَ الحبُّ قلتُ حبيبتي كُتبي

(والغريب الغريب، أنني اكتشفت أن أولاد أحد إخوتي يحفظون هذين البيتين بعد خمسة وأربعين عاماً من كتابتهما).

كانت كتابة هذين البيتين انتصاراً رائعاً بالنسبة لي، فقد تمكنت، ليس من دراسة العروض فقط، وإنما كتابة الشعر دون خطأ. كانت المرحلة التالية قراءة الشعر، فكنت أمضي كل يوم، خلال العطلة الصيفية، من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءً، في المركز الثقافي العربي في حمص، أقرأ الشعر فقط، فقد كانت هذه نصيحة الشعراء الكبار دائماً لمن يود أن يصبح شاعراً في المستقبل.

أذكر أنني قرأت مسرحية “مجنون ليلى” لأمير الشعراء، ربما، أكثر من خمسين مرة. كان حب قيس لليلى يأسرني، وكنت أغص كلما وصلت لآخرها متضامناً مع العاشق التاريخي، وكانت ليلى قد ماتت:

بظلِّ الله يــا ليلـى     وفي بحبوحـة الخـلدِ

وهـذا نجـد يا ليلـى     فنامي في ثـرى نجـدِ

لكأنني أقرأ هذين البيتين للمرة الأولى الآن، وأشعر بالغصة ذاتها.

افتتحت المدرسة أبوابها، وكان عام شهادة، هي الشهادة المتوسطة، لم يكن لدي الوقت الكافي لأفكر كثيراً في كتابة الشعر، مع أنني كنت أكتب، لكنني لا أجرؤ على قراءة ما أكتب للشعراء الكبار، وإنما لأترابنا، فقد كنا جميعاً متميزين عن فتيان ذلك الوقت، وكان اهتمامنا بالآداب والفنون طاغياً على أنشطتنا.

Comments are disabled