الموسيقى غذاء الروح

أشفق على مَن لا يتقن استعمال حواسه الخمس، ولا يتمكن من اكتشاف مكامن الجمال في الطبيعة، ولحظات السعادة في هذا العمر القصير، ولا تهزه الكلمة المؤثرة، والتعبير المبدع، والصورة الجميلة، والصوت الساحر، والنغم الحالم.

روت لي والدتي، رحمها الله، أنها لاحظت وهي تحملني وأنا لا أزال بعمر أسابيع قليلة، أنني كنت أهز رأسي يميناً ويساراً مع سماعي للموسيقى، ويبدو أن اهتمامات الإنسان تُخلق معه منذ الساعات الأولى لولادته. لذلك لم يكن مستغرباً أن يبدو شغفي بالموسيقى مبكراً.

حين أصبحت في المدرسة الابتدائية، كنت شغوفاً بدرس الموسيقى، على الرغم من أن المعلمين، بل ومدير المدرسة، لم يولوا هذا الدرس الأهمية التي يستحقها، وكثيراً ما كان يُستبدَل بدرس آخر، في الرياضيات أو اللغة العربية، وهذا ما كان يحزنني، وكم كنت مأخوذاً مسلوباً محلِّقاً في عالَم آخر، حين كان أستاذ الموسيقى يمسك بالعود، ويعزف لنا الأغاني، والأناشيد، وكنا نغنى جماعةً.

كم حلمت أن يكون لدي عود! كم أتيت بأنواع من المطّاط، وصنعت أعواداً من الخشب والمسامير، وكم غنّيت وأنا أعتقد بأنني أعزف أغنياتي المفضلة عليها! وكنت أتسلق شجرة الطرفاء في بيتنا العتيق وأغني، ممسكاً بأُملود صغير من الشجرة، متصوِّراً أنني أعزف على العود. لكن الوسط الاجتماعي لم يكن مهيَّأً، فبيتنا بيت علم، وليس في الأسرة كلها موسيقي واحد، إضافة إلى أن سمعة الموسيقيين كانت في الحضيض، ولا أستطيع أن أقرر إن كان ذلك صحيحاً أم لا. لكنني كنت مسحوراً بالعزف على العود.

بقيت الأمور كذلك حتى أصبحت في السنة الأولى من المدرسة الإعدادية (المتوسطة)، وكان على طريق المدرسة محل يصنع الأعواد، فأقف أمامه طويلاً وأنا أحلم بامتلاك واحد منها، حتى تجرّأت ودخلت المحل وسألت صاحبه عن سعر العود، فأجابني (خمس وأربعون ليرة)، ولكن من أين لي هذا المبلغ، وعمري لا يتجاوز الثانية عشرة، ومصروفي ليرة واحدة كل أسبوع، أشتري منها مجلة “الأسبوع العربي” بستين قرشاً، وأتصدق على فتى فقير بعشرة قروش، ويبقى لي ثلاثون قرشاً. كان مجرد جمع الليرات الخمس والأربعين مشروعاً ضخماً بحد ذاته، في مطلع ستينات القرن العشرين، إضافة إلى أنني لا أستطيع أن أطلب من أبي شراء عود لي، فقد كان ذلك نوعاً من الوقاحة، والخروج على التقاليد.

بقيت حوالى العام ونصف العام حتى استطعت جمع المبلغ، واشتريت العود، وجئت به إلى البيت، لأخفيه عن عينَيْ أبي إما تحت السرير، وإما فوق الخزانة، بعد أن أضعه في (كيسه) إخفاءً له، لكن أمي وإخوتي كانوا على علم بذلك، إذ كنت أستغل ذهاب أبي إلى المسجد في أوقات الصلاة، وأخرج العود من مخبئه، ثم أعيده إليه حين أشعر بعودة أبي.

بقيت الحال هكذا سنوات ستّاً!! حين أصبحت في السنة الثانية من الدراسة الجامعية.

درست في جامعة حلب، وأنا ابن حمص، وكان معي عدد من الأصدقاء (الحماصنة)، منهم صديق يعزف على العود، وكان لا يفارق عوده. كم كنت سعيداً وأنا أستمع إليه وأراقبه وهو يعزف، وألاحظ حركة يديه، منتبها إلى نقل أصابعه مع النغم، حتى كدت أتجرأ وأقول له: أعطني عودك.. فأنا أستطيع أن أقلدك، لكن ذلك بقي خيالاً.

ذات يوم، لا أدري ماذا حصل لصديقي، وصار يستفزني، ربما لأنني أقيم الأمسيات الشعرية في الجامعة، ويصفق الناس لي، لأنه قال لي متحدياً:

  • ماذا يفعل الشعر لك، إنك تقيم أمسيتين أو ثلاثاً في العام، أما أنا فأعزف كل يوم.

قلت له:

  • إنني أستطيع أن أتعلم العزف على العود لو شئت، وبذلك أكون شاعراً وعازفاً، وأتفوق عليك.

أجابني: أتحداك.

وكان على كلامه شهود، فأجبته:

  • هل تسمح لي أن أتدرب على عودك بينما أُحضِر عودي من حمص؟

فسمح لي مكملاً تحديه.

صرت أزور صديقي، محاولاً تقليده، لكنني، في الحقيقة، لم أكن قادراً على تحديه خلال مدة قصيرة، ولا أستطيع قضاء وقت طويل عنده، لأن علينا أن ندرس أولاً.

أحضرت عودي من حمص، ورحت أتدرب ساعات كل يوم، مقلداً صديقي، بدون أستاذ، ولم يمضِ أكثر من أربعة أشهر، حتى أصبحت قادراً على عزف عدد لا بأس به من الأغاني الأكثر انتشاراً في تلك الأيام (عام 1970 وبعده)، وأصبح باقي أصدقائنا يطلبون مني عزف بعض الأغاني، حتى بوجود صديقي عازف العود.

في عام 1971 عاد أخي الكبير من السعودية بعد غياب ثماني سنوات متواصلة، فطلبت أمي مني أن أُحضر العود معي من حلب، وكان الإعلان عن وجوده للمرة الأولى، دون خوف من أحد، وكانت شخصيتي قد اكتملت، وأصبحت لا أسمح لأحد أن يتدخل في ما يخصني، مستقلاً بقراري.

اليوم، في أسرتنا عدة عازفين على آلات موسيقية عدة، وابني رامي يكتب الأغاني، ويلحنها، ويعزف على الغيتار، ويقرأ النوتة، ويتمتع بثقافة موسيقية تفوقني كثيراً. بالإضافة إلى أكثر من أخ، وأكثر من ابن عم يعزفون.

عشقت أصوات فيروز، ومحمد عبد الوهاب، وعادل مأمون، وشريفة فاضل، وأغنيات كثيرة لأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، وسعاد محمد، ليلى مراد. وعشقت صوت عزيزة جلال وحضورها المتميز ولا أزال أحتفظ بتسجيلات لها، ومن الأصوات التي أحببتها كثيراً أصوات المرحومة ربى الجمال التي افتقدناها مبكراً، ونهاد فتوح التي اعتزلت أيضاً وحرمتنا صوتها وأداءها، وسمية قيصر، وصفوان بهلوان. وبالمقابل كرهت أصواتاً تغني، منها ما يشبه الزعيق، ومنها ما يشبه صوت عادم السيارة المثقوب، إضافة إلى النقيق والوقوقة والنعيب والنهيق، ممن تطفلوا على الغناء.. وأكثر ما يضايقني أداء البعض من المتطفلين على فن الغناء لأغنيات من أغاني أولئك العمالقة، لا يردعهم رادع، أو حد أدنى من الحياء، حتى أن الكثير من الجيل الجديد أصبح يظن أن تلك الأغنيات الخالدة لهم، لأنهم لم يسمعوها من أصحابها الأصليين، حتى أن الصفاقة بلغت بأحدهم أن يغني لأم كلثوم، ولعزيزة جلال أيضاً، بصوته الأقرب إلى جاروشة الذرة الصفراء منه إلى الصوت البشري.

العزف على آلة موسيقية نوع من البوح بالمشاعر، وغذاء للروح، واختراق لتخوم الزمان والمكان، وإشباع للعاطفة الإنسانية، وكنز سرمدي مباح في جميع الأوقات، كشفاه الحبيبة.

أما الاستماع للموسيقى، فهو عبادة، وصلاة تطهر النفس، ورحلة روحية في فضاء لا حدود له، وانفلات من قيود المادة وحصار الأرقام..

دريد نوايا

Comments are disabled