من ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية (1)

أجواء ما قبل الحرب

لبنان بارومتر المنطقة، كل ما يحدث في منطقة الشرق العربي ينعكس مباشرة على لبنان. يبدو لي أن من سلخ لبنان عن امتداده الطبيعي، أراد أن يترك جرحاً مفتوحاً، أو قابلاً للفتح في أي وقت. فالهامش الذي تمتع به الإعلام (المكتوب غالباً في ذلك الزمن) بلغ حداً لم يبلغه أي كيان عربي آخر، فعلى سبيل المثال، كانت الصحيفة التي تريد أن تبيع كامل نسخها المطبوعة، تختار مانشيتاً مثل “انقلاب في سورية”، وكانوا يروون عن سورية أخباراً، بعضها صحيح، وأغلبها ملفق، وكان المرجع دوماً “ذكر قادمون من سورية إلى لبنان”.

لم نشعر يوماً، كسوريين، أن لبنان يختلف عنا في شيء، إلا في هامش “الحرية الإعلامية” الذي يبلغ في كثير من الأحيان حد الإسفاف، والبلطجة في أحيان أخرى، فكنا نقرأ الفضائح التي يثيرها “حملة الأقلام الحرة” إذا لم يدفع “المفضوح” لحامل القلم الحر، وفي نفس الوقت كانت المواقف الوطنية على أشدها في المناسبات والأحداث الوطنية. مثلاً: لم يحكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لبنان، لكن الناصرية مازالت حاضرة في لبنان، في الوقت الذي لا تجد لها أثراً واضحاً في سورية أو حتى في مصر. والذين يذكرون الزعيم الخالد لبنانيون في أكثر من 90% من الحالات، بينما تجد المنتقدين أكثر في الدول المعنية.

كان كيسنجر قد طرح موضوع توطين الفلسطينيين في لبنان على المرحوم الرئيس سليمان فرنجية، صاحب مقولة “وطني دائماً على حق”، بعد حرب 1973، ولم يجد تجاوباً منه، فهدد وتوعد، وكانت الحرب الأهلية عام 1975.

أذكر أنني سافرت مرة بسيارتي الخاصة إلى بيروت (كان ذلك في النصف الثاني من 1974 إذا أسعفتني الذاكرة)، واتجهت نحو سد البوشرية، حيث كان لي عمل هناك، وفي الطريق شاهدت دواليب سيارات تحترق، لكن أحداًُ لم يكن هناك. اخترت أوسع مسافة بين دولابين يحترقان، ومررت بسيارتي بسرعة، وبعد بضع عشرات من الأمتار، صادفت حاجزاً آخر من الدواليب التي تحترق، لكن عدداً من الشباب كان يقف عنده، فتقدّم نحوي أحدهم وهو يحمل أنبوباً غليظاً من المعدن، يهددني ويطلب مني العودة من حيث أتيت، فاستجبت وعدت، لأختار طريقاً آخر، ولأصل في نهاية الأمر إلى المكان الذي أقصده.

ماذا يحدث؟ سألت، فأجابني أحد الأصدقاء: محاولة اغتيال لمعروف سعد. سألت: وهل أُصيب؟ قال: نعم، وإصابته خطرة، هو الآن في المشفى. وأضاف: “الله يستر.. إذا توفي سوف يشتعل البلد”.

كان الناس قلقين جداً، وينتظرون بين لحظة وأخرى أن تشتعل البلاد بالاقتتال والفوضى، حتى أن نسمة من الهواء أغلقت باباً بقوة، فقفز الجالسون من مقاعدهم يهتفون: “علقت”. كانت الأجواء مشحونة، وتبدو “الحرية” فلتاناً.

حين عدت، توقف السير في أحد الشوارع، وسمعت أصوات طلقات نارية، فهمت بعدها أن شخصاً لم تعجبه نظرة شخص آخر، فأخرج مسدسه وأطلق النار. وفي المساء، وبينما كنت ألبي دعوة على العشاء في أحد المطاعم، وجدت نفسي فجأة دامع العينين جاري الأنف، وهكذا كان جميع رواد المطعم، وكانت تلك المرة الأولى التي أشهد من خلالها ما تحدثه القنابل المسيلة للدموع، وشاهدت عناصر “الفرقة 16” تذرع الشوارع في الاتجاهين.

لم يطل الوقت حتى حدث ما حدث في 13 نيسان 1975، وكانت ساعة الصفر.

Comments are disabled