من ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية (2)

من الأحق بالنهب؟

تعرفت به في إحدى العواصم العربية، شخص عجيب غريب، يجمع كل متناقضات الدنيا في شخصيته: مثقف، دمث، جريء، مغامر، كحولي، متديّن، وفيّ، مكابر، يحب الدكتور جورج حبش ويردد أقواله، ويحفظ الكثير من شعر مظفر النواب ويتغنى به.

وعلى الرغم من أنه في أواسط الثلاثينات من العمر، لم يكن متزوجاً أو مصادقاً، حتى أنه لا يفكر بالجنس الآخر إلا من قبيل الدعابة، ولم يكن يبدو معقَّداً مثلاً أو شاذاً، كان طبيعياً جداً، يأخذ الأمور ببساطة شديدة، ويبدو مقتنعاً بحياته وطريقة عيشه، فقد “مرّ من تحت الحبل” كما كان يقول، وصديقه الذي جاء معه إلى تلك البلاد حُكِم بالإعدام شنقاً، وتم تنفيذ الحكم فيه، بينما تمت تبرئته لأنه بريء من تهمة صديقه، وعاش على مساعدات تلك الدولة، في ما يشبه اللجوء السياسي.

حين يحصل على مبلغ من المال، يبحث عن الفقراء والمشردين، ويدعوهم للسهر على حسابه، فيجالسون “الأرتستات”، ويشربون ويأكلون، ثم يعود أدراجه، ليس في جيبه ما يمكن أن يسد رمقه في اليوم التالي.

في الحقيقة، كنت أتفقّده دوماً، لا يمكن لي أن أتناول طعام الغداء إلا بعد أن أطمئن عليه، وإلا فدعوتي له مستمرة، وبشكل يومي. ربما كان هذا سبباً من أسباب محبته لي، ولوجه الحق أقول: لم يكن مستغِلاً أو “متسلبطاً”، كان دائماً عزيز النفس، لا يطلب شيئاً من أحد، وكنت أشعر به من خلال مراقبتي له. مثلاً، حين تمر فترة من الزمن دون أن يدخِّن، أعرف أنه “مقطوع” من الدخان، فأقدم له علبة سجائر أو أكثر مما أحمل، فيأخذها بالكثير من الاعتذار والخجل. وحين “يقبض” كان يقيم لي مأدبة عامرة، يشاركني بها كل جياع وسط العاصمة، ومشرديها، وكم أكون سعيداً بذلك!

ذات مرة كان يحدّثني عما كان يقوم به في بيروت مع “شلّته” من نهب للبيوت المهجورة، وكنتُ ألومه، فيشرح لي قائلاً: النهب في تلك الظروف ليس عيباً ولا حراماً، هؤلاء الذين تركوا بيوتهم لديهم بيوت أخرى آمنة يلجؤون إليها، أما نحن الفقراء، فليس لدينا طريقة أخرى لاسترداد حقوقنا التي نهبوها أيام السلم. لكنه كان يعتبر السرقة أمراً معيباً، لا يقوم به إلا كل حقير “واطي”.

كان كلامه يُضحِكني، لأنني لا أفرِّق بين النهب والسرقة، وأعتبرهما اعتداء على أملاك الغير.

قال لي: “كسرنا مرة باب إحدى الشقق المهجورة، كنا ثلاثة، ورحنا نفتش عما خف وزنه وغلا ثمنه، وبينما نحن كذلك، دخلت جماعة أخرى الشقة، وطلبوا منا أن نقاسمهم ما غنمناه من المال وزجاجات الويسكي الفاخر”.

سألني: كيف سنقاسمهم الغنائم ونحن من كسر الباب؟

وقفت حائراً لا أجيب، فتابع:

قل لي، هل لديهم الحق في ذلك؟

بقيت مذهولاً لا أتمكن من الإجابة، فعاد وكرر ما يعتبره حقاً قائلاً:

صاحب الحق هو من دخل الشقة أولاً وتكبد عناء كسر الباب.

قالها دون أن ينتظر إجابتي، ويبدو أنه فهم رأيي من نظراتي ودهشتي، وغيّر الحديث.

Comments are disabled