من ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية (3)

نتيجة لما جري في نيسان 1975، كان من الصعب الاعتماد على بيروت في أي عمل، لأنه سيكون على كف عفريت. وهذا سبب عام، أما السبب الخاص، الذي يخصني وحدي، فقد بدأت مرحلة “الأيام الصعبة” التي تجنبت الخوض فيها حتى الآن، مراعاةً لآخرين، لا أريد أن أبدو وكأنني “حاقد” على أحد، فأنا متسامح، وربما كان هذا التسامح ناشئاً عن اطلاعي غير المحدود على المسيحية، والتعالي على الجرح، خاصة حين يكون الأمر مع من يفترض بأنه سند وليس خصماً ينتظر لحظة ضعف لينقضّ على من كان يُفترَض بأنه مشروع مستقبل.

إذاً، تضافر السبب العام والسبب الخاص ليفرزا مرحلة خاصة، ربما عبّر عنها ما تبقى من قصائد أفرزت لها عنواناً خاصاً في هذا الموقع “الأيام الصعبة”.

كان من نتائج ذلك، الانقطاعُ عن بيروت، ولبنان عموماً عدة سنوات، استمر حتى العام 1981 بشكل عملي، حين استطعت أن أمسك بجميع الخيوط من جديد.

المهم أنني عدت نحو بيروت، وصار أصدقاؤنا اللبنانيون يأتون إلينا في دمشق بشكل شبه يومي، ولم تكن هناك حاجة للذهاب إلى بيروت بشكل متكرر، حتى كان القرار بافتتاح مكتب في بيروت، يكون بمثابة تطوير للعمل الثقافي التجاري في آن، فكان القرار عام 1982 بافتتاح هذا المكتب.

حزمت حقائبي، على الرغم من الأحداث غير المطَمئِنة، وتوجهت إلى “كاراج بيروت” في دمشق، لكن، لم أجد سيارة واحدة، أو سائقاً واحداً على استعداد للذهاب إلى هناك، فقد كان التاريخ 4 حزيران (يونيو) 1982، وقد بلغ الاجتياح اليهودي حدود بيروت.

الحقيقة أن ما منعني من الذهاب إلى بيروت هو عدم وجود وسيلة نقل فقط، لم يكن الاجتياح الصهيوني يعنيني في شيء، وهكذا تأجل مشروع افتتاح المكتب، ثم تلاشى، ليكون القرار: اختيار قبرص بديلاً عن لبنان.

قد يسأل سائل: لماذا لا تستمر في دمشق؟ وأجيب: كنت أريد إصدار مجلة شهرية، وكان هذا مستحيلاً في دمشق، فالصحافة مرهونة بالقطاع العام، على الرغم من أن المشروع لم يكن سياسياً، لكنه ممنوع بالمبدأ. هذا هو السبب.

في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 1982 غادرت إلى نيقوسيا لدراسة الوضع، ومن هناك كنت على اتصال بأصدقائي اللبنانيين، حتى طُلِب مني أن أحضر لبيروت، فاتفقنا بعد أيام قليلة، وأصبح تيكت الطائرة في حقيبتي، لكن فجأة، وقبل موعد السفر بيوم واحد، يخبرني صديقي في بيروت ويطلب مني تأخير قدومي بضعة أيام، بينما يهدأ الوضع، فسألته: ما القصة؟ قال:

  • تعرض وليد جنبلاط منذ قليل لمحاولة اغتيال قبل قليل، ولا نستطيع أن نتوقع ما يمكن حدوثه، ومن المفضل التمهل في قدومك.

بعد أيام قليلة حضرت إلى بيروت، وكانت المرة الأولى بعد غيبة، فكانت الأبنية كما هي في منطقة الحمرا، لكن بيروت ليست بيروت التي عرفتها وأحببتها، كان القادم يشعر بأن هناك شيئاً غير طبيعي.

صعدت إلى الشقة التي أعدّها صديقي المرحوم حسين حلاق لإقامتي، وصرت في الشهور التالية موزعاً بين نيقوسيا وبيروت، وكأنني أتنقل بين بيتي ومكتبي، هي ثلث ساعة في الطائرة بين بيروت ولارنكا، لكنني، ودون دخول في التفاصيل، شهدت في بيروت أحداثاً سمعها غيري في الأخبار:

  • مباحثات الطاولة المثلثة بين لبنان والولايات المتحدة والكيان اليهودي، التي أنتجت في النهاية اتفاق 17 أيار 1982، ثم سقوط هذا الاتفاق بقوة المقاومة والقوى الوطنية الشريفة.
  • ضرب السفارة الأميركية، وكنا نسمع أصوات سيارات الإسعاف والإطفاء وغيرها لمدة خمس ساعات على ما أذكر.
  • تفجير مركز الدراسات الفلسطينية، وهذا ما شاهدته بأم العين، فقد صادف وقتها وجودي في الطابق السابع لبناية قريبة، ولا أنسى ما شاهدته يرتفع نحو السماء، ثم يعود ويهبط ثانية نحو الأرض، ثم استقبال الأصدقاء العاملين في المركز، واحداً بعد الآخر في دار الكلمة للنشر.
  • العديد من الانفجارات، كان أقربها في البناية الثانية المجاورة للبناية التي أسكنها، وأحدها في شارع الحمرا بعد مروري منه بخمس دقائق، في حوالى الحادية عشرة ليلاً.

بعد ذلك انتقلنا جميعاً إلى قبرص، وكان انقطاع آخر عن بيروت دام حتى اتفاق الطائف، إذ لم تعد بيروت مكاناً مناسباً للعمل، أو آمناً للإقامة.

Comments are disabled