حين حلقت ذقني للمرة الأولى

ذات مرة، حين كنت في السادسة عشرة أو في السابعة عشرة من العمر، كنت أجلس في صالون الحلاقة منتظراً دوري، ومستمعاً إلى الأحاديث الشيقة التي تدور بين الحلاق (يدعى مظهر) وبين زبائنه من كبار السن.
حين جاء دوري جلست على كرسي الحلاقة، وشرع الحلاق في قص شعري، ومازالت الأحاديث مستمرة. أنهى الرجل عمله في رأسي، ثم رفع مسند الرأس خلفي، ودفع برأسي إليه دون أن أعلم ماذا يريد أن يفعل.
تركني قليلاً ثم عاد وبيده فرشاة وصابون حلاقة الذقن، وراح يرغي الصابون على ذقني وخدّيّ وعنقي من الأمام، وأنا أنظر في المرآة أكاد أنفجر بضحكة، لكنني تماسكت وتركته يفعل ما يريد، فقد غمرني شعور لذيذ أحسست من خلاله أنني أصبحت رجلاً، وها هي ذقني تشهد على ذلك.
بقي (مظهر) مدة غير قصيرة وهو يعبث بالفرشاة والصابون، ويتابع حديثه مع زبون يبدو أنه صديق له، وكان الحديث يدور حول تلحين الموسيقار محمد عبد الوهاب أغنية “أنت عمري” لأم كلثوم.
كان مظهر معارضاً لمحمد عبد الوهاب ويرفض بكل ما أوتي من قوة أن يلحن لأم كلثوم، لأنه يقيِّدها باللحن والإعادة، ولا يسمح لها بـ”التفريد” وإطراب المستمعين بما يمتلك صوتها من إمكانات، وخاصة الآهات. أما صديقه فقد كان مؤيداً للقاء موسيقار الجيل وكوكب الشرق، لأن القمّتين أبدعا عملاً فنياً رائعاً.
أمسك مظهر بموسى الحلاقة بعد شحذه جيداً، وبدأ بحلاقة “ذقني” من تحت السالف الأيمن، ثم الأيسر نحو الذقن. وحين وصل إلى العنق، كان الخلاف قد اشتد بينه وبين صديقه المعارض له في الرأي بالأغنية، فتحمَّس وصارت يده ترتجف غضباً، وحين وصل إلى المذبح، كان الخلاف قد بلغ أَوْجَهُ، فصار يرقع “سكِّينه” عن عنقي كلما ردّ على صديقه، ثم يعيدها ليكمل عمله، ومن شدة حماسه رفع الموسى نحو الأعلى قائلاً بغضب:
– والله.. لو كان عبد الوهاب أمامي لضربته بهذه السكّين..
عندئذ، أمسكت بيده محتجّاً وقلت:
– دع هذا الموسى من يدك.. من طلب منك أن تحلق لي ذقني أصلاً؟ لن أرتاد هذا الصالون مرة أخرى.. ما كنت أعلم أنني في مشفى مجانين.
هدأ مظهر وأخذ يعتذر، فيما كنت أمسح ما تبقى من الصابون على عنقي، وأغسل وجهي على المغسلة، وبقي يطيِّب خاطري حتى خرجت، ولم أعد إليه مرة أخرى. لكنه بقي يسلِّم علي كلما التقينا في الشارع عدة سنوات.
منذ ذلك التاريخ، قبل أكثر من أربعين عاماً، وأنا أحلق ذقني بيدي.

Comments are disabled