مقدمة

على الرغم من مضي أكثر من ثلاثين عاماً على تلك “الأيام الصعبة”، مازلت أشعر بغصة أليمة عندما أتذكرها. ولأنني مازلت أتساءل: لماذا كان كل ما كان؟ أجدني أحاول ابتلاع الغصة تلو الغصة.

لماذا يعاقَب شاب في مستهل حياته العملية، بما لا يؤهِّله موقعه بعدُ على احتمال أي أزمة يمكن أن تعصف به؟ خاصة عندما تكون من أقرب الناس إليه، ممن يُتَوقّع أن يكونوا عوناً وسنداً له؟!

فجأة ينقلب الجميع، وكأن في صدورهم حقداً دفيناً، وكأنهم كانوا ينتظرون لحظة ضعف للانقضاض. الكل يساهم في محاولة تحطيم هذا الذي يتماسك دون أي سند على الإطلاق.

أقف حائراً، بعد عشرات السنين، لأسأل نفسي: لماذا آذوني ولم أُؤذِ أحداً، وهم يعلمون ذلك؟ لماذا انقلب ضدي هؤلاء الذين ساعدتهم ووقفت إلى جانبهم؟ أي يد آثمة كانت تهدِّدهم ليفعلوا ما فعلوا؟

أنظر إليهم الآن، فأرى من بقي على قيد الحياة منهم نكرات لا قيمة لهم، ومن مات منهم، عاش نكرة ومات كذلك، بينما كنت أحلِّق في فضاء لا حدود له، وأحظى باحترام كبار القوم، وعلماء الأمة، حتى أصبح الإطراء لدي أمراً عادياً.

لم تكن خيبة أمل وحسب، كانت صدمة حقيقية، لكنها لم تستطع انتزاع إنسانيتي مني، ولم تُخضعني لقوانينها الضيقة، فانطلقتُ بما كان من المفترض أن يفيد الأسرة، إلى ما عمّت فائدته على الوطن الكبير.

لا فضل لأحد علي، ومن فضَّل علي ذات يوم بقيراط ـ حتى ولو كان واجبه ـ رددت له فضله مضاعفاً مئات المرات، حقيقةًً وليس مبالغة، وها أنذا أنشر هذا الكلام على الملأ ليقرأه من يشاء.

كل إنجاز حققته كان بالتعب والسهر والإصرار، والأسرة التي كوَّنتُها، على صغرها، أتباهى بها. فقد حصلت زوجتي على الإجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها وهي عندي، وكنت أشاركها الدرس في كثير من الأحيان. أما ابنتي، فهي تحقق النجاح تلو النجاح، وقبل تخرجها من الجامعة، عملت في جميع حقول الإعلام، المرئية والمسموعة والمقروءة، وتفوقت عليّ، وهذا ما أسعدني. وأما ابني، فقد درس الترجمة عن اللغة الإنكليزية، وسيتخرج قريباً، إضافة إلى براعته في كتابة السيناريو، والعزف على الغيتار، وتأليف الأغاني وتلحينها، مع ثقافته الواسعة بالنسبة لعمره في علم النفس، والمحاولات الروائية.

أما من حيث الأخلاق، فلا أحد لدينا يغتاب أحداً، ولم يمد يده إلى ما ليس له، ولم يفتح دُرجاً أو حقيبة، ولم يمد يده إلى جيب أحد، ولا يحسد أحداً، والجميع يشهد، ويتمنى صحبتنا.

ولي من الأصدقاء الصدوقين ما يثير غيرة الآخرين، وربما حسدهم، أينما ذهبت أجد لي أكثر من بيت يطلبني وأسرتي بمحبة وإلحاح، من جميع الطوائف والملل والانتماءات الإثنية، ما دامت المواطنية والاعتراف بالآخر الذي يشاركنا الوطن، شعاراً وسبيلاً ومنهجاً وأسلوب حياة.

وعلى الرغم من أنها “أيام الصعبة”، فقد تخللها الكثير الكثير من “الأيام السعيدة”، كانت حافلة بكل ألوان الطيف، وكانت هناك منجزات يغبطني عليها الأصدقاء، ويحسدني عليها من يعتبرون أنفسهم “منافسين!”، ومن تلك الأيام الصعبة انطلقت ليملأ اسمي معارض الكتاب على امتداد الوطن العربي، ويسجل في عدة دول، وتُطلَب كتبي بالمئات، من بغداد إلى الدار البيضاء، وما يظهر منها على الإنترنت غيض من فيض.

وعلى الرغم من أنني لم أكتب كل شيء، ليس في حياتي ما يمكن أن أخجل من ذكره. أنا فخور بكل ما فعلت، وسبب إغفالي لبعض الأحداث هو حرصي على عدم المس بالآخرين، ومراعاة لمشاعر البعض الآخر.

Comments are disabled