الزراعة المائية.. اتساع الأفق

لا أستطيع أن أتصور بيتاً أجرد دون نباتات، لكن، أليس هناك من يتمنى تزيين بيته بهذه المخلوقات الرائعة، لكن ظروفه تمنعه من ذلك، ربما لطبيعة عمله وعدم قدرته على العناية بها، أو غير ذلك من الأسباب.

ولأن العقل وحده قادر على استنباط الحلول لجميع المشاكل، والعزيمة وحدها الذراع القوية لتفعيل هذه الحلول، كان الإنسان أنجح المخلوقات على هذه البسيطة.

تجربة أصبحت أسطورة:

بالقرب من بروكسل، عاش رجل ريفي نبيل يدعى فان هلمونت (1577 – 16644)، وهو مكتشف عدد من الغازات (كلمة غاز هو الذي أطلقها). لقد رغب هذا الرجل في تحديد العامل الذي يحافظ على حياة النبات ويجعله قادراً على النمو، فقام بتجربة أصبحت شهيرة.

زرع فان هلمونت شجرة صفصاف صغيرة تزن خمس ليبرات (2285 غراماً) في برميل يحتوي على مئتي ليبرة (حوالى 90 كلغ) من التربة، وأحكم إغلاق البرميل بحيث لا يُضاف إلى التراب أي شيء آخر، وترك الشجرة تنمو لمدة خمس سنوات.

في نهاية المدة، أخذ هلمونت الشجرة فوجد أن وزنها 169 ليبرة (76.5 كلغ)، في الوقت الذي كان وزن التراب في البرميل كما هو، مع تسامح بسيط اعتُبِر مسموحاً به كخطأ، فاستنتج أن الشجرة نمت على الماء وحده.

ولكن، إذا كانت النباتات لا تتطلب سوى الماء لنموها، لن تكون هناك سوى مشاكل قليلة في موضوع تغذيتها!

التطبيق الأول للزراعة المائية:

أعاد الباحث الإيرلندي روبرت بويل (1627 – 1691) تجربة هلمونت، وتوصل إلى نفس النتائج. لكنه اختبر التجربة بمساعدة الزراعة المائية، وبذلك كان أول من يضع هذه الطريقة في الزراعة في المجال العملي، وكتب في الأعوام 1663 – 1665 حول أن النباتات الهوائية العادية يمكن لها أن تعيش بشكل عادي في الماء، واعتبر ذلك برهاناً على افتراضاته في تحول العناصر، بعضها إلى بعض. لكن بويل عاد وكتب بأن النبات لا يستطيع النمو على ماء المطر وحده، وذلك بعد عمل غلوبر (1604 – 1668)، وجون مايو (1643 – 1679) اللذين برهنا أن هناك عناصر أخرى لا غنى للنبات عنها.

في أواخر القرن السابع عشر قام جون وودوورد في إنكلترا بتجربة، فأضاف عينات من تربة الحديقة للماء الذي زرع فيه نباتاته، وخرج بنتيجة يقول بتحسّن نمو النبات بفضل المواد التي تحتوي عليها التربة.

وفي أوائل القرن التاسع عشر قام نيكولاس دي سوسر في فرنسا ببحث هام، وكذلك جان بوسينغولت في خمسينات القرن التاسع عشر، وتم تحديد بعض العناصر الضرورية لنمو النبات. ثم كانت تجارب ويلهيلم نوب (1817 – 1910) ويوليوس فون ساش (1832 – 1907) اللذين استخدما الزراعة المائية في دراساتهما للعناصر الأساسية للنبات، وأفضل الكميات والنسب لنموه، وهذا ما اعتُبِر نقطة البداية نحو تطوير التغذية الاصطناعية للنبات.

تطبيق الزراعة المائية بالميزان التجاري:

إذا وضعت غصناً من نبات في كوب ماء فعاش وأخرج جذوراً، أو بصلة هياسنت في عيد الميلاد، تكون قد مارست الزراعة المائية في أبسط صورها. لكن الزراعة المائية، كطريقة في الزراعة، بقيت محصورة في المختبرات سنوات طويلة، ولم يجرؤ أحد على اعتمادها على المستوى التجاري حتى العام 1929، حين قام البروفيسور جيريك (W. F. Gericke) الأميركي بوضع بحثه في زراعة البندورة في الماء على المستوى التجاري، في ولاية كاليفورنيا الأميركية.

وجد جيريك أن نبات البندورة المزروع في التربة، نادراً ما يعطي محصولاً يفوق المعدل بكثير، حتى في مناخ كاليفورنيا المناسب له، وقد عزا ذلك إلى عدم كفاية العناصر في الأسمدة، واعتقد بأن المزرعة المائية ستزود النبات بما يحتاجه من العناصر الضرورية، التي تنغسل في التربة، وتبتعد عن متناول جذور النبات، كما يلتصق بعضها بحبيبات التربة، وبذلك لا يكون متاحاً للنبات، فضلاً عن إمكانية اتحاد بعضها بمواد أخرى مكونة مركبات غير قابلة للانحلال في الماء. كل هذا يمنعنا من معرفة الكمية المتاحة للنبات من هذه العناصر، ونوعيتها. لكن النتائج لم تكن مرضية، لقلة المعرفة باحتياجات النباتات المختلفة من العناصر، واستخدام مركزات عالية من هذه العناصر (على شكل أملاح بالطبع)، وكذلك حاجة جذور النباتات للأوكسيجين.

بين الكيميائيين والصحافة:

منذ العام 1934 أجريت تجارب عديدة على الزراعة المائية بهدف الحصول على محاصيل أفضل، وبعد ذلك لجعل الزراعة ممكنة في التربة الفقيرة، لكن النتيجة لم تكن كما تمنى أصحابها.

لكن الكيميائيين الحديثين كانوا من يستحق الثناء في هذا المجال، فقد قدموا للزراعة المائية النصائح والمعلومات القيّمة. أما من انشغل بالموضوع، وكتب عنه بما يشبه الخيال، فكان الصحفيون. لقد أعطوا الأمر بعداً خيالياً، وادعى البعض أن متراً مربعاً واحداً يعطي من الخضار ما تحتاجه أسرة مكوّنة من أربعة أشخاص طوال العام، إلى ما هنالك من المبالغات. لكن المجلات العلمية لم تنشر شيئاً من هذا، بينما انصرف الباحثون للبحث الجاد.

دراسة TNO الألمانية:

كان لمدير القسم الفني العام للمنظمة الألمانية للبحث العلمي التطبيقي الدكتور جان آل عام 1948 رأي يقول: على الرغم من الإخفاقات فإن بحوث الزراعة المائية جديرة بالاهتمام، ويجب أن تكون ممكنة.

بعد الحرب العالمية الثانية، كان مربو القرنفل يعانون من مرض الأوعية الناقلة (يسببه فيروس)، حتى بعد تعقيم التربة بالأبخرة المركزة الكثيفة، إذ استمرت الإصابة في الطبقة السفلى من التربة، وعادت في العام القادم، وحين استبدلوا التراب بالحصى، كانت الإصابة أسرع انتشاراً, وهكذا قامت TNO بتطوير محلولها الغذائي.

في الأعوام التالية توسعت البحوث حول إمكانية الزراعة المائية، وبشكل خاص في مجال التغذية، إضافة إلى متطلبات الجذور من الأوكسيجين. وبدأ التعرف إلى الاختلافات بين الزراعة الترابية والزراعة في الماء. وفي العام 1953 كانت TNO قادرة على زراعة القرنفل في الحصى، وبمحصول مماثل للزراعة في التراب، ودون أية إصابة فيروسية. وفي الفترة 1953 – 1958 وما بعدها، بحثت المنظمة في زراعة النباتات الزهرية في مدينة ألسيمير الهولندية، وكانت النتائج باهرة، وقد تمكنوا من زيادة محصول نبات الأنثوريوم 35%.

الزراعة المائية لتنمية الخضار:

كانت التجارب على محصولي الخيار والبندورة برعاية منظمة TNO تحت الزجاج. وقد واجهت زراعة الخيار بعض المشاكل التي بدت صعبة، وحققت زراعة البندورة نجاحاً أكبر. لكن النتيجة التي خلص الباحثون إليها هي أن هناك أصنافاً معينة تنجح لدى زراعتها في الماء، كانت أقل نجاحاً حين زُرعت في التراب، وأصنافاً أخرى نجحت لدى زراعتها في التراب أكثر من زراعتها في الماء. لكن وضع الزراعة المائية في الاستعمال قبل اكتمال دراساتها، قلل من قدرها، وجعل الناس تتخوف منها في ذلك الحين.

من التجربة إلى المزارع المائية التجارية:

كان الألماني جيرارد باومان هاوياً لتربية النباتات، شغوفاً بها، وكان سهل الاقتناع بطريقة الزراعة المائية، فاشترى كل ما يلزمه لتحويل جميع نباتاته إلى هذه الطريقة من الزراعة، لقد تعامل مع شركة رائدة، بقي على تواصل معها، ومن ممارسته فهم الزراعة المائية جيداً بحسناتها وسيئاتها، وطوَّر أفكاراً في التجهيزات التي احتاجتها النباتات الداخلية المزروعة في الماء، وحين وصل إلى درجة الرضا، قام بتسليم كل ما لديه من نباتات للشركة التي يتعامل معها (فاتر) في أوائل خمسينات القرن الماضي، وتشكلت، بالتعاون معه، شركة “لواسا إنترهيدرو” التي أصبحت معروفة على مستوى العالم.

الزراعة المائية والهواة:

إذا أخذت نباتاً مزروعاً في التراب، فاقتلعته، وغسلت جذوره، ثم وضعته في أصيص للزراعة المائية، بعد أن قمت بشراء كل ما يتطلبه هذا النبات، هل ستنجح؟ الجواب: لا شيء مضمون، لأن جذور النبات الذي عاش في التراب ستتعطل تماماً في المحلول المائي، ولا بد من نمو جذور أخرى مائية، تناسب العيش في الماء، وتختلف من الناحية الفيزيولوجية.

ما هي ميزات الزراعة المائية وسيئاتها؟

لا شك في أن النبات المزروع مائياً أكثر كلفة من النبات المزروع في التراب. لكن النباتات في المحاليل المائية لا تحتاج إلى الكثير من العمل، فهي تُروى على فترات متباعدة، ربما كل أسبوعين أو أكثر، وهذا ما يتيح لمن يشكو من فترات غياب تستمر أياماً، أن يقتني ما يشاء من النباتات المزروعة مائياً. كذلك لا مجال لاتساخ الأيدي، ولا حاجة للتسميد، أو نقل النبات إلى أصيص أكبر، كما يمكنك أن تجمع عدداً من أنواع النباتات ذات المتطلبات المختلفة في نفس الحوض، كأن تضع نباتاً محباً للماء مع أنواع الصباريات مثلاً.

كذلك لن تكون لديك أي من المشاكل الناتجة عن وجود التربة، كالأعشاب، وستحصل على نباتات أكثر تماثلاً، وتستهلك القليل جداً من الماء، ولن تعاني نباتاتك من نقص العناصر، ولا تحتاج لاتباع دورة زراعية، بل تستطيع زراعة نفس النبات في نفس المكان بشكل دائم.

تجارب شخصية:

يعود اهتمامي بالزراعة المائية إلى أكثر من ثلاثين عاماً مضت. وقد كتبت في هذا الموضوع للمرة الأولى في مجلة الجيل (عدد آب 1984)، ثم ترجمت ونشرت كتاب “الزراعة المائية” عام 1988. وفي العام 1990 قررت ممارسة هذا النوع من الزراعة، فقمت بزيارة للسفارة الألمانية (الغربية في ذلك الوقت) طالباً تزويدي بعناوين الشركات التي تعمل في هذا الحقل، وحصلت على حوالى عشرة عناوين، قمت بالكتابة إليها.

أرسلت لي إحدى الشركات (هيدرو روتر) مجموعة كبيرة من التجهيزات: الأصص الخارجية، والأصص الداخلية ذات الشقوق، وحبيبات الليكا، ومقاييس ارتفاع الماء، والأغذية البطيئة الذوبان، التي تضاف إلى الماء كل 4 – 6 أشهر. ثم أتبعتني بمجموعة قيّمة من الكتب باللغتين الإنكليزية والألمانية. وبعد مراسلتي بثلاثة أشهر أو نحوها، وإجابتي عن كل ما طرحت من أسئلة واستفسارات، عرضت الشركة علي العمل لديها بطريقة لا مثيل لها من الكياسة والتهذيب (لتبادل الخبرات)، وقد اعتذرت لأنني كنت سئمت الغربة والسفر.

منذ العام 1990 أقتني عدة نباتات في بيتي مزروعة مائياً، مثل فيكس بنيامينا، وسكيندابسس، وشيفليرا، ودراسينا ترايكولور، واليوكا… وكلها ناجحة. وللطرافة أضيف: إن بيتي أصبح بستاناً في وقت من الأوقات، حتى أنني اقتنيت بضعة حساسين بشكل حر في البيت (دون أقفاص)، كنا نستيقظ على أصواتها في الصباح، وكانت شيئاً مثيراً شهده أصدقاؤنا، ومنها قصص طريفة لا مجال لذكرها الآن.

من ناحية ثانية، وفي زيارة لي لمزارع أسترا في تبوك، شمال الحجاز، شاهدت بيتاً زراعياً كبيراً لإنتاج الخس بطريقة الزراعة المائية (المنصة الجارية) مؤتمت بشكل كامل، وذكر لي المهندسون هناك بأنهم يحصلون على ست مواسم في العام، وعلى مدار الفصول الأربعة، وكانت المنصات تحتوي على الخس بأعمار مختلفة لتغطية حاجة السوق باستمرار.

لوازم الزراعة المائية:

ربما كان الحصول على الغذاء الخاص أهم ما أستطيع أن أنصح بضمانه قبل الدخول في تجربة كهذه، ثم مقياس ارتفاع الماء. أما الباقي فهو متيسر، ويمكن (توقيعه) مما يتوفر في السوق، كالأصيص الخارجي، والأصيص الداخلي، وبديل حبيبات الليكا، وما إلى ذلك.

الزراعة المائية كزراعة اقتصادية:

في أحد كتبه التي صدرت في الثمانينات (خريف الغضب على الأغلب)، ذكر الصحفي المصري الكبير محمد حسنين هيكل في أحد الفصول أن رئيس الوزراء السوفييتي في ذلك الوقت نيكيتا خروتشوف زار مصر عام 1965، ويبدو أن الرئيس جمال عبد الناصر أطلعه على بعض المشاريع الزراعية، كمديرية التحرير. وبعد أن ودع الرئيس عند الناصر ضيفه في المطار، بقيت ثلاثة أمور في دائرة اهتمام الرئيس مما دار خلال الزيارة، أحدها ما قاله الرئيس خروتشوف، من أن زراعة المستقبل ستكون عبارة عن أنابيب ضخمة تمتد عبر الصحراء، وسيكون استهلاك الماء فيها أقل بكثير مما تتطلبه الزراعة التقليدية. وكان الاتحاد السوفييتي رائداً في الزراعة المائية.

يمكن، بهذه الطريقة، استثمار كل الأماكن للزراعة، أسطح المنازل، والأرصفة، والشُّرَف، المناطق القاحلة، وحتى التي تحتاج لنقل الماء، وتغطية حاجة الأسواق من الخضار، والنباتات الأخرى. وبذلك، يمكن للعلم أن يتغلب على جميع المشاكل، مهما كانت كبيرة وخطيرة.

المهندس دريد نوايا

(نشر في نشرة معرض الزهور – دمشق 2008)

Comments are disabled